Please ensure Javascript is enabled for purposes of website accessibility

فائدة العلم الذي لا فائدة فيه

لا أنسى حالة السخرية التي انتشرت بين أوساط العامة حين أرسلت وكالة الفضاء الأمريكية (ناسا) مركبةً إلى المريخ، تلك الحالة جعلتني أتذكر أنه في برنامجه الشهير — بل ربما الأشهر في القرن العشرين في تفسير القرآن — وحين أتى إلى تفسير قوله تعالى في سورة البقرة ﴿هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعًا ثم استوى إلى السماء فسواهن سبع سموات وهو بكل شيء عليم﴾ جلس الشيخ الشعراوي أمام الكاميرا وقال مُعلِّقًا على صعود الأمريكان إلى القمر: «طب طلعنا القمر، استفدنا إيه؟ بالك اللي اكتشف المنديل بتاع الزكام دهوه، أحسن من اللي طلع القمر1

أثارت هذه الكلمات غضب الدكتور زكي نجيب محمود وكتب في كتابه «أفكار ومواقف» يقول:

«فلقد كنت أستمع في التلفزيون إلى متحدثٍ جليل، فلما ورد في سياق حديثه محاولات العلماء الصعود إلى القمر وغير القمر من أجرام السماء، قال المتحدث الجليل أن منديل الورق الذي يمسح به أنفه المزكوم أنفع من صعود العلماء إلى القمر؛ فلو كان متحدثنا الجليل يعبِّر في ذلك عما يشعر به هو، وجعل السامعين على إدراك بأنه إذ يقول ذلك، فإنما هو ينظر إلى موضوع نظرة شاعر، لما كان في الأمر ما يُؤخذ عليه. وأمَّا أن يقول كلامًا كهذا في سياق عَرضٍ «علمي» لما يعرض له، فقد كان واجب «العقل» يقتضيه أن يتقصَّى الحقائق في موضوعية العلماء. ولو فعل ذلك لعرف أن إحدى النتائج الفرعية الجانبية التي نَتجَت لنا عن الصعود إلى القمر، تلك الأقمار الصناعية التي نستخدم بعضها في نقل البث التلفزيوني إلى أرجاء العالم كله في لحظةٍ واحدة. ومن يدري؟ فلعل محدثنا الجليل كان في حديثه ذاك مسموعًا للعالم الإسلامي كله بواسطة أقمارٍ صناعية، جاءت نتيجةً فرعيةً لمحاولات الصعود إلى القمر، التي قال عنها سيادته إن ورقة يمسح بها أنفه المزكوم أنفع منها.»2

ما أكثر ما يتكرر هذا السؤال الذي سأله الشيخ الشعراوي في حديثه: ما الذي عاد على البشرية من صعود الإنسان إلى القمر؟ وماذا جنينا من دراسة الثقوب السوداء التي تقع في ظلمات الكون السحيق؟ وأي نفعٍ يأتينا من تلك المليارات التي تُبذل في مجال الفيزياء النظرية، والتي لا تُشبِع جائعًا ولا تُروي عطشانًا؟ أليس الأجدر أن تُستثمر تلك الثروات الهائلة التي تُنفق في أبحاث الفلك والنجوم لخدمة قضايا ملحة، كإطعام الجياع، وعلاج المرضى، وتخفيف معاناة البشرية؟ وعندها تبدأ الإجابة المُعتادة كما ذكرها الدكتور زكي نجيب محمود ردًا على الشيخ الشعراوي، وقال: إن التليفزيون الذي يراك الناس عن طريقه هو نتيجة غير مباشرة من نتائج صعود الإنسان إلى القمر. أو يقول غيره: إن نظام الملاحة (GPS) الذي يسير الناس على هُداه لم يكن ليُخترع لولا نظرية أينشتاين التي أطلّت في زمانها على البشر وكأنها سرابٌ بعيد، لا يمسّ حياتهم بشكلٍ مباشر.

وهكذا، نجد أن العلماء — في مواجهتهم لهذا الطرح المحدود — وكأنهم مجبرون على تبني أسلوب الدفاع، محاولين طمأنة المجتمع بأن العلم سيُثمر، وإن لم يكن اليوم فغدًا، وكأن عليهم إقناع الآخرين بأن المعرفة إن لم تُقدّم لهم منافع ملموسة فورًا، فإنها مع مرور الزمن ستفعل. يبيت العلماء تحت ضغط الاعتذار، يبررون ويعللون، ويُقدّمون وعودًا مستقبلية تُشير إلى أن ما يبدو اليوم محض تجريد ونظرية، قد يُصبح غدًا حاجةً أساسية، كما حدث مع بعض العلوم والنظريات التي ظلت سنوات طويلة بلا قيمة ملموسة، ثم حملت للبشرية خيرًا وفيرًا.

وفي خضم هذا التبرير المتكرر، يتراجع العلماء عن جوهر رسالتهم، ليَظهروا وكأنهم في حاجة إلى إرضاء القائلين بأن العلم لا يستحق مكانه إلا بما يُقدّمه من فائدة مادية آنية. يغدو العلم في نظر العامة — بل والعلماء — شيئًا يُساوَم على جدواه، وهم لا يرونه إلا في حدوده الضيقة، ولا يشعرون بقداسته كنافذة على عالم أوسع وأعظم. وكأنما على العلماء تبرير كل رحلة استكشاف أو كل معادلة معقدة بتطبيق عملي قريب، فإن لم يوجد تطبيق عملي قريب، يعدون الناس بتطبيق عملي بعيد، دون أن يدرك كلٌ من العلماء قبل العامة أن العلم بذاته احتفاء بالوجود، وحاجة إنسانية لإشباع ذلك الشغف الأزلي تجاه المجهول، ورغبة حقيقية في المعرفة التي لا تقف عند حدود المنفعة.

لا يُحتَّم على العلماء، بل لا ينبغي لهم، أن يكونوا تجار فوائد، ولا أن يتحدثوا بلسان الحاجة والضرورة المادية؛ فالتفكير العلمي يُنير العقول قبل أن ينفع الجيوب، ويسهم في بناء الوعي والفهم العميق قبل أن يُحسّن سُبل المعيشة. إن العلم، بنقائه وأهدافه السامية، يحرّر الإنسان من قيود الجهل، ويمده بأدوات للتحرر من الظلمات، ويمنحه سلاحًا ضد الخرافة. بل إنه يُعلّمه أن الحياة ليست مجرد رحلة استهلاك، وأنها أكبر من مجرد حسابات نفعية، بل هي أفق واسع من الأفكار والاكتشافات التي تتيح لنا فهم الجمال والعظمة في الكون.

العلم الحقيقي لا يتطلب من حامليه أن يقدموا الوعود، ولا أن يُضطروا إلى الدفاع عن قيمته، بل يكمن في عظمة أسئلته وقدرته على فتح آفاقٍ جديدة للتفكير والتأمل، ليرتقي بالإنسان إلى مستوى الإدراك العميق لنفسه وللكون من حوله، ويعلّمه أن بعض الأشياء — على نُبلها وسموها — لا تحتاج إلى تبرير مادي، فهي بذاتها غاية وفضيلة.

وهكذا، نجد العلماء، بتبنيهم أسلوب التبرير الدفاعي هذا، يسهمون، ولو بغير قصد، في خفض قيمة العلم وجعلها رهينة لمعاييرٍ مادية بحتة، وكأنهم بذلك ينزلون على رأي من يجهلون جوهر العلم وعمقه. بدلًا من تغيير نظرة المجتمع تجاه العلم وإعلاء قيمته، يرضخ العلماء لهذه المطالب، متناسين أن دورهم الأسمى أن يرفعوا الناس من قاع الجهل إلى قمم الفهم والمعرفة، لا أن ينزلوا هم إلى الأسفل إرضاءً لرغبات من لا يدرك قيمة العلم وفضله.

حينما يتبنى العلماء موقف التبرير بوعود مستقبلية، يقبلون ضمنيًا بنظرةٍ ضيقة تُقصر العلم على ما يعود بفائدة مادية سريعة، وبذلك يُفرّطون في رسالته الحقيقية؛ فيصبح العلم، تحت ضغط هذه النظرة القاصرة، كأنه عَرَض زائلٌ ينتظر التبرير، لا جوهر سامٍ يكتفي بذاته. إن الانصياع لهذه الرؤية المجتزأة للعلم يُعدّ تراجعًا عن الدور التنويري الذي يلتزم به العلماء، ويضعهم في موقع المدافع بدلًا من موقع المرشد الذي يسعى لرفع الوعي، وتقديم العلم كمسعى نبيل يهدف إلى الارتقاء بالإنسانية.

فليسامحني الدكتور زكي نجيب محمود لأني أرى أجابتَه غير مُوفّقة حين أجاب على الشيخ الشعراوي وقال استفدنا أقمارًا صناعية تنقل لقاء الشيخ الشعراوي للناس، فقد وقع في الفخ وسلّم له أن العلم النافع هو العلم الذي ينتج لنا أجهزةً جديدة، وكان عليه إعادة تغيير المفهوم ليقول: إن تعريفكم ونظرتكم للعلم نظرة أناس ماتت قيمةُ العلم في نفوسِهم، بل ماتت نفوسُهم وذبلت. كان عليه أن يجيب: استفدنا نورًا من علم الله، ومحونا ظلامًا من الجهل، استفدنا معرفةً أمرنا الله بها، وإعمالًا لعقولنا التي حضنا الله على استخدامها والتفكير بها، استفدنا إخراج إنسان يسأل ويعلم ويفكر ويتأمل ويصل، إنسان يتفكر في ملكوت السماوات والأرض، إنسان سأل ربه أن يزيده من العلم فزاده. أما فضيلتكم، فتريدون ظلامًا وجهلًا، تريدون انتكاسةً لروح البشر وصفاتهم، فإذا قال الله أنه يرفع الذين أوتوا العلم، فأنتم تريدون أن تحطوا من العلم وأهله. وشتان بين عقلٍ ينادي أن يرتفع بالعلم — أي علم — وعقلٍ آخر يريد أن ينحطّ بالجهل.

ألا مَن يُبَلِّغْ عن السيد المسيح قولَه بأن «ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان» [إنجيل متى ٤:٤]، بل يحيا الإنسان — إلى جانب الخبز — بالعلم، والفهم، والحكمة، فهذه هي مطايا العظماء، وزادُ السالكين، ومقصدُ الراقين في مدارج الفضل.

وإننا لَنأبى أن نكون كمَن اختار الظلمةَ على النور، وقنع من الحياةِ الدنيا واطمئن بها بما يُرضي جسده وبطنَه، ونسى أن له روحًا تتعطش للعلم، وتشتاق للمعرفة، لا لشيءٍ إلا لأنها معرفة وفقط.

إن استنكاف الناس عن بذل المال والجهد في العلوم التي يرونها «غير نافعة» ولا تدر عليهم عائدًا ماديًا مباشرًا أو غير مباشر، ليس أمرًا جديدًا، كما أن استهجان الشيخ الشعراوي وغيره لهذا النوع من العلوم لم يكن بالأمر المبتدع. فهاتان الطائفتان من البشر — أقصد تلك التي تسعى للارتقاء بالعلم لذاته دون التفات إلى مردوده المادي، والأخرى التي لا ترى قيمةً إلا في المنفعة الحسية والمكاسب الدنيوية — قد وُجدتا منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها. وإن كان هؤلاء، أمثال الشيخ الشعراوي أو المعترضين على تمويل مشاريع علمية كأموال وكالة «ناسا»، ما زالوا يعيدون هذه الاعتراضات ويرددون هذه القيم المادية، فإن ذلك يعيدنا إلى نموذج قديم يصل إلى ٢٧٠٠ سنة مضت، أشار إليه أرسطو في كتابه «السياسة»، حيث ذكر قصة فيلسوف سبقه، طاليس، الذي يُعد أول الفلاسفة المعروفين في التاريخ. كان طاليس فقيرًا مُعدمًا، وقد سخرت منه العامة واتهموه بإضاعة وقته في الفلسفة وعلم الفلك دون أن يجلب لنفسه نفعًا ماديًا. إلا أن طاليس، بإعمال عقله وفطنته، توقع زيادة إنتاج الزيتون في إحدى السنوات. فاستأجر جميع معاصر الزيتون في مدينته خلال فصل الشتاء، أي قبل موسم الحصاد. وعندما حان الوقت واحتاج الناس إلى تلك المعاصر، لم يجدوا بدًّا من التعامل معه وفق شروطه وأسعاره. وهكذا، حقق طاليس ثروة كبيرة في وقت قصير. لكن هدف طاليس لم يكن السعي وراء المال أو الثراء، بل أراد – كما أوضح أرسطو – أن يثبت للناس أن الفلاسفة قادرون على جمع الثروة متى شاءوا، ولكنهم يترفعون عنها لأن غايتهم الأسمى هي البحث عن المعرفة، والارتقاء بها، لا اللهاث وراء المال أو المكاسب الحسية.فهذه القصة، إذ تُروى عبر التاريخ، تعكس بجلاء ذلك الجدل الأزلي بين من يسعى إلى العلم لغاية سامية، ومن لا يرى فيه إلا وسيلةً لتحقيق منفعة مادية.3

ذلك المعنى أن عاش لأجله طاليس، واتفق فيه أرسطو، نجده يتكرر كذلك عند قاسم أمين، إذ كتب يقول:

«طلبُ العلم عندنا وسيلةٌ لمزاولة صناعة أو للالتحاق بوظيفة، أي لكسب المال. أما حبُّ الحقيقة والاستغراق في تحصيلها والشوق إلى اكتشاف المجهول ومغالبة الصعوبة والاهتمام بترقية النفس… وبالإجمال التعلُّم لأجل العلم، فلا فائدة فيه. والحقُّ أن الفائدةَ كل الفائدة في هذا الذي لا فائدة فيه!»4

إنه لمن المؤكد أن البشر لن يجتمعوا على نظرة واحدة تجاه العلم، إذ سيبقى بين الناس من لا يرى في العلم سوى وسيلة لتحقيق النفع المادي، ولا شيء غير ذلك. وعليه، فإن تقديم الإجابة التي تُبرز المنفعة المادية قد تكون مقبولة في بعض الظروف، بل قد يضطر العلماء أحيانًا إلى أن يَعِدوا الناس بنفع مستقبلي إذا غاب النفع الفوري، ليس لأن هذا هو المسلك الأمثل، بل لأن الضرورة قد تفرض ذلك.

فإذا كانت وكالة الفضاء الأمريكية (NASA) تعتمد في تمويلها على أموال الضرائب التي يدفعها المواطنون، وكان الكونغرس الأمريكي هو الجهة المخولة بالموافقة على ميزانيتها، فمن ذا الذي سيُقنع هؤلاء الساسة بقيمة العلم وفضله؟ لقد ابتُلينا بأن المال والقرارات الكبرى تُترك في أيدي السياسيين لا العلماء، وما أقبح أن يُترك مصير العالم رهنًا بجهل من لا يدرك قيمة المعرفة! حينئذٍ، قد يضطر العلماء إلى مخاطبة السياسيين بلغة النفع التي يستسيغونها، وهي في حقيقتها أشبه بما يُستباح في أوقات الضرورة، كأكل الميتة لمن أُجبر على ذلك. ورحم الله الدكتور مصطفى مشرفة حين قال: إن من أصعب الأمور على العالِم أن يقنع الجاهل بقيمة العلم.5

هذا ما أردت أن أقوله وأكتبه، لكن الإضافة التي أردت أن أضيفها في هذا المقال هو ترجمة لمقال عظيم كتبه أبراهام فلكسنر، هذا الرجل الذي أسس معهد الدراسات المتقدمة، واستقطب في تلك الجامعة أبرز وألمع العقول على الإطلاق، وقبل أن أبدأ في ترجمة هذا المقال الهام أريد أن أعطي لمحةً عن هذا الرجل، وعن ذلك المعهد، وعن المقال الذي اخترت نقله إلى اللغة العربية.

******

سيرة أبراهام فلكسنر (Abraham Flexner)

أبراهام فلكسنر

وُلد أبراهام فلكسنر (Abraham Flexner) في الثالث عشر من نوفمبر عام 1866 في مدينة لويزفيل بولاية كنتاكي، لعائلة يهودية مهاجرة من ألمانيا. نشأ في بيئة تقدر التعليم، مما أثر بشكل كبير على مسيرته المستقبلية. التحق بجامعة جونز هوبكنز، حيث حصل على درجة البكالوريوس عام 1886، وتابع دراسته في الفلسفة بجامعتي هارفارد وبرلين. بدأ فلكسنر حياته المهنية كمدرس، لكنه سرعان ما أثبت قدرته الإبداعية عندما أنشأ مدرسة تجريبية في مسقط رأسه عام 1890، حيث ركزت على تلبية احتياجات الطلاب بشكل فردي بدلاً من اتباع الأنظمة التقليدية الصارمة. تلك التجربة شكّلت الأساس لفلسفته التعليمية القائمة على الابتكار والبحث العلمي.

من أبرز إنجازات أبراهام فلكسنر تقريره الشهير الصادر عام 1910، والذي عُرف باسم «تقرير فلكسنر» (Flexner Report). تم تكليفه من قبل مؤسسة كارنيجي لدراسة التعليم الطبي في الولايات المتحدة وكندا. كشف التقرير عن قصور كبير في مستوى التعليم الطبي في معظم الكليات الطبية آنذاك، حيث كانت تفتقر إلى المعايير الأساسية للتدريس القائم على البحث العلمي الحديث. كانت توصيات فلكسنر جذرية، حيث دعت إلى إغلاق العديد من الكليات التي لم تتوافق مع المعايير الصارمة التي وضعها. كما أوصى بدمج التعليم الطبي مع المستشفيات الكبرى لتعزيز الجانب العملي والتطبيقي للتعليم. أدى هذا التقرير إلى ثورة شاملة في التعليم الطبي، حيث أصبحت الجامعات تعتمد بشكل أكبر على العلوم الأساسية مثل علم الأحياء والكيمياء، مما رفع من جودة التدريب الطبي بشكل ملحوظ. حيث رسّخ معايير أكاديمية أعلى، تتضمن التدريب السريري والتعليم القائم على البحث التجريبي.

بالإضافة إلى تأثيره على التعليم الطبي، لعب فلكسنر دورًا رئيسيًا في تشكيل التعليم العالي والبحث العلمي على نطاق أوسع. شغل منصب مستشار لمؤسسة روكفلر، حيث ساهم في تمويل العديد من الجامعات والمؤسسات البحثية الكبرى، بما في ذلك جامعة جونز هوبكنز. وفي عام 1930، أسس معهد الدراسات المتقدمة في برينستون، نيوجيرسي، الذي أصبح مركزًا عالميًا للبحث العلمي، واستقطب علماء بارزين مثل ألبرت أينشتاين وجون فون نيومان. آمن فلكسنر بأن التعليم العالي يجب أن يركز على البحث والإبداع بدلاً من التلقين التقليدي، مما أسهم في تحويل الجامعات إلى مراكز للابتكار العلمي. توفي أبراهام فلكسنر في الحادي والعشرين من سبتمبر عام 1959، لكنه ترك إرثًا خالدًا في تطوير التعليم الطبي والبحث الأكاديمي، ليظل اسمه علامة فارقة في تاريخ الإصلاح التعليمي.

******

معهد الدراسات المتقدمة (Institute for Advanced Study)

تأسس معهد الدراسات المتقدمة (Institute for Advanced Study) في عام 1930 في مدينة برينستون بولاية نيوجيرسي، على يد المصلح التعليمي أبراهام فلكسنر (Abraham Flexner). كان الهدف الرئيسي من إنشاء هذا المعهد هو توفير بيئة علمية خالية من القيود الأكاديمية التقليدية، حيث يمكن للباحثين والعلماء التركيز على الابتكار والإبداع دون الحاجة إلى القلق بشأن التدريس أو المسؤوليات الإدارية. استلهم فلكسنر فكرة المعهد من الجامعات الأوروبية الكبرى، خاصة النموذج الألماني الذي يُعطي الأولوية للبحث العلمي على التعليم التقليدي. كان هذا المعهد فكرة غير مسبوقة في الولايات المتحدة آنذاك، وسرعان ما تحول إلى نموذج عالمي للمؤسسات البحثية التي تركز على الدراسات المتقدمة والابتكار.

أينشتاين أمام معهد الدراسات المتقدمة

كان للمعهد دور كبير في استقطاب أبرز العلماء والمفكرين من جميع أنحاء العالم، خاصة أولئك الذين فروا من الاضطهاد النازي في أوروبا خلال الثلاثينيات من القرن الماضي. ومن بين الأسماء البارزة التي انضمت إلى المعهد العالم الفيزيائي ألبرت أينشتاين (Albert Einstein)، الذي عمل فيه على تطوير نظرياته الشهيرة. كما جذب المعهد علماء مثل جون فون نيومان (John von Neumann) الذي ساهم في علوم الحوسبة والرياضيات، وكورت غودل (Kurt Gödel) أحد أعظم علماء الرياضيات والمنطق في العصر الحديث. لم يقتصر المعهد على العلوم الطبيعية والرياضيات فقط، بل شمل أيضًا تخصصات إنسانية مثل التاريخ والفلسفة والاجتماع، مما جعله مركزًا متعدد التخصصات يعمل على فهم أعمق للعالم.

ما يميز معهد الدراسات المتقدمة هو فلسفته التعليمية التي تهدف إلى تعزيز البحث الحر وغير الموجه. لا يمنح المعهد درجات أكاديمية، ولا يفرض على الباحثين قيودًا تتعلق بالمناهج الدراسية أو التدريس، مما يسمح لهم بالتركيز الكامل على أبحاثهم. تُموَّل أنشطة المعهد من خلال الهبات والتبرعات، حيث تلقى في بداياته دعمًا كبيرًا من عائلة بودلفيلد (Bodleian) وعائلة روكفلر.

اليوم، يُعد المعهد رمزًا عالميًا للتميز الأكاديمي، ويواصل استضافة العلماء البارزين من مختلف التخصصات، مسهمًا في تقدم العلم والفكر على مستوى العالم. يعتبر معهد الدراسات المتقدمة أحد أهم المؤسسات البحثية التي غيرت طريقة فهمنا للبحث العلمي، ووضع الأسس لنهج يعتمد على حرية التفكير والإبداع كوسيلة لتحقيق التقدم البشري.

******

مقال: فائدة العلوم عديمة الفائدة «The Usefulness of Useless Knowledge»

نُشر مقال فائدة العلوم عديمة الفائدة «The Usefulness of Useless Knowledge» عام 1939 بقلم أبراهام فلكسنر (Abraham Flexner)، مؤسس معهد الدراسات المتقدمة (Institute for Advanced Study) في برينستون. في هذا المقال، يتناول فلكسنر مفهومًا جوهريًا حول أهمية البحث العلمي النظري الذي لا يبدو عمليًا في البداية، موضحًا كيف أن هذه الأبحاث الأساسية تمثل النواة التي تنبثق منها الابتكارات الكبرى. جاءت كتابته للمقال كرد فعل على تنامي النزعة العملية في الأوساط العلمية خلال تلك الفترة، حيث كانت الحكومات والمؤسسات العلمية تركز بشكل متزايد على الفوائد الاقتصادية والتطبيقات العملية الفورية. استعرض فلكسنر فلسفته من خلال دعوة جريئة لتحرير البحث العلمي من قيود الأهداف قصيرة المدى، مؤكدًا أن السعي نحو المعرفة لذاتها غالبًا ما يؤدي إلى تطبيقات غير متوقعة تُحدث ثورات علمية وتقنية في المستقبل.

ركز المقال على فكرة أن الاكتشافات العلمية الكبرى التي أثرت في البشرية كانت في بداياتها مجرد أبحاث نظرية «عديمة الفائدة» بمعايير ذلك الوقت. قدم فلكسنر أمثلة متعددة لدعم وجهة نظره، من بينها أعمال ألبرت أينشتاين في النظرية النسبية، والتي بدت في بداياتها بعيدة عن أي تطبيق عملي لكنها أصبحت الأساس لتقنيات مهمة لا يمكننا الاستغناء عنها. كما أشار إلى أبحاث في الرياضيات البحتة التي ساهمت لاحقًا في تطوير الحوسبة وعلوم الاتصالات. انتقد فلكسنر بشدة النظرة القاصرة التي تحصر أهمية البحث العلمي في نتائجه الملموسة على المدى القصير، مؤكدًا أن التركيز على التطبيقات الفورية يحد من إمكانيات الإبداع والابتكار. بدلاً من ذلك، دعا إلى تمكين العلماء والمفكرين من العمل بحرية في بيئة تدعم الفضول والاكتشاف دون الالتزام بمردود عملي مباشر.

لا يزال هذا المقال يُعتبر مرجعًا كلاسيكيًا في الدفاع عن حرية البحث العلمي وأهميته بعيدة المدى، وقد أثّر بشكل كبير على طريقة فهم المجتمع لدور الأبحاث الأساسية. الفكرة الجوهرية للمقال ألهمت مؤسسات تعليمية وبحثية كبرى لتبني نهج يُعطي الأولوية للمعرفة النظرية كاستثمار في مستقبل البشرية. تم إعادة نشر المقال في عام 2017 مع مقدمة بقلم روبرت ج. دايكراف (Robbert Dijkgraaf)، مدير معهد الدراسات المتقدمة، لتسليط الضوء على أهمية هذه الأفكار في عصرنا الحالي، حيث أصبح الربط بين البحث العلمي والفائدة الاقتصادية أكثر بروزًا من أي وقت مضى. كما يمثل المقال بيانًا خالدًا يذكرنا بأن العديد من الاكتشافات العظيمة التي نستفيد منها اليوم جاءت من أفكار بدت في البداية بلا فائدة، مما يؤكد أن البحث العلمي الحر هو أساس التقدم البشري والإبداع.

******

«النص المترجم»6

أليس من المدهش أننا، في عالم تكتنفه الكراهية العمياء والعبثية التي تهدد أسس الحضارة نفسها، نجد رجالًا ونساءً، كبارًا وصغارًا، ينسحبون من صخب الحياة اليومية وضجيجها ليكرّسوا أنفسهم، كليًا أو جزئيًا، لزرع الجمال، ونشر المعرفة، ومداواة الجراح، وتخفيف معاناة البشر، كأنهم يتجاهلون وجود أولئك المتعصبين الذين يُمعِنون، في الوقت ذاته، في نشر القبح والألم والمعاناة؟ لقد ظل العالم دائمًا مرتعًا للفوضى والحزن، ومع ذلك، نرى الشعراء والفنانين والعلماء يتحدّون هذا الواقع الذي، لو استسلموا له، لثنّاهم عن مساعيهم الجليلة.

من منظور عملي، قد تبدو الحياة الفكرية والروحية في ظاهرها نوعًا من الترف، ينغمس فيها الناس لما تمنحه من لذة ورضًا أعمق مما تقدمه الخيارات المادية. ولكن في هذا المقال، سأناقش إلى أي مدى يمكن لهذه المتع الفكرية «غير النافعة» أن تصبح مصدرًا لفوائد عظيمة وغير متوقعة.

كثيرًا ما يُقال، بإلحاح بات يبعث على الملل، إن عصرنا هذا ماديٌ بطبيعته، يسعى لتحقيق استفادة أوسع من الموارد وإتاحة فرص دنيوية متكافئة للجميع. وقد دفعت الدعواتُ المشروعةُ لتحقيق العدالة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية أجيالًا من الطلاب إلى التوجه نحو دراسات تهتم بهذه القضايا بدلاً من المجالات التقليدية التي شغلت آباءهم. وعلى الرغم من أنني لا أعترض على هذا التوجه، بل أدعمه، فإنني أجد نفسي أحيانًا أتساءل: هل أصبح هذا التيار قويًا إلى حد يُقصينا عن أن نحيا حياةً متكاملة؟ وهل هناك مساحة كافية للأشياء التي تبدو «غير نافعة»، لكنها تمنح العالم قيمته الروحية؟

بعبارة أخرى: هل ضاقت رؤيتنا لما هو «نافع» حتى باتت تعجز عن استيعاب الإمكانات الشاسعة للروح الإنسانية؟

يمكننا مقاربة هذه القضية من زاويتين: الأولى علمية، والثانية إنسانية وروحية. وأود أن أبدأ بالزاوية العلمية. أستعيد هنا ذكرى حوار دار بيني وبين السيد جورج إيستمان* (George Eastman) قبل سنوات. كان رجلًا يجمع بين الحكمة ورقة الطبع، وذوقًا رفيعًا في الموسيقى والفنون. خلال حديثنا، أعرب عن نيته تخصيص ثروته لتطوير التعليم في المجالات «المفيدة». فاغتنمت الفرصة لسؤاله عن رأيه حول العالِم الذي قدّم أعظمَ إسهام للبشرية. دون تردد، أجاب: «جولييلمو ماركوني،* ذاك العالم الإيطالي الذي اخترع الراديو».

أبديت اندهاشي وقلت له: «مع كل ما أضفاه الراديو والاتصالات اللاسلكية من قيمة وفائدة، فإن إسهام ماركوني محدود جدًا وأقل بكثير مما ما يظنه الناس.»

كان واضحًا أن كلامي أثار دهشته، فطلب مني توضيح فكرتي. وها أنا أستعيد تلك اللحظة لأوضحها مجددًا، فقلت له:

عزيزي السيد إيستمان، إن ماركوني لم يكن سوى ثمرة حتمية لمسار التطور العلمي الذي سبق مجيئه بسنوات. أما الفضل الحقيقي لكل الإنجازات التي تحققت في مجال الاتصالات اللاسلكية، فإنما يعود — إن كان يمكننا إرجاع الفضل لشخص معين — إلى البروفيسور جيمس كليرك ماكسويل. فقد أجرى ماكسويل في عام 1865 حسابات دقيقة ومعقدة في مجالي الكهرباء والمغناطيسية، وصاغها في معادلات رياضية مجردة نشرها في أطروحته الشهيرة عام 1873.

بعد ذلك بفترة وجيزة، وخلال اجتماع الجمعية البريطانية، أعلن البروفيسور سميث (H.J.S. Smith) من جامعة أكسفورد قائلاً: «لا يمكن لأي عالم رياضيات أن يقرأ هذه الأطروحات دون أن يدرك أنها تتضمن نظرية أحدثت تطورًا عظيمًا في علم الرياضيات البحتة.» وعلى مدى خمسة عشر عامًا تلت نشر تلك الأطروحات، جاءت اكتشافات علمية أخرى لتُكمل البناء النظري الذي وضعه ماكسويل. وفي عامي 1887 و1888، تمكن العالم الألماني هاينريش هيرتز (Heinrich Hertz)، أثناء عمله في مختبر هلمهولتز في برلين، من إثبات وجود الأمواج الكهرومغناطيسية، وحل اللغز العلمي المتبقي في هذا المجال، وهو الكشف عن الناقل الأساسي للإشارات اللاسلكية.

اللافت في الأمر أن لا ماكسويل ولا هيرتز كانا معنيين بأي تطبيق عملي لعملهما؛ مثل هذه الأفكار لم تخطر ببال أي منهما. لم يكن لهما هدف سوى التعمق في فهم الطبيعة واكتشاف أسرارها. أما ماركوني، الذي نُسبت إليه الشهرة كـ «مخترع»، فقد كان دوره أقرب إلى من وضع اللمسات الأخيرة، مثل جهاز استقبال بسيط يُدعى «الكوهيرر”، والذي أصبح اليوم مهملًا وتقادم استخدامه.

ماكسويل وهيرتز لم يقدما اختراعًا ملموسًا، لكن أعمالهما النظرية، التي صنّفها البعض ضمن العلم «الذي لا ينفع»، كانت الأساس الذي استند إليه تقنيٌ مُبدع لتحويل تلك الأفكار إلى أدوات أحدثت ثورةً في عالم الاتصال والترفيه. وهكذا، نال مَن قام بالتطبيق العملي شهرةً واسعة وثروات طائلة، بينما ظلت أسماء العباقرة الحقيقيين، مثل ماكسويل وهيرتز، أقل شهرة. ومع ذلك، إذا أردنا الحديث عن الفائدة الحقيقية للبشرية، فإنها تعود دون شك إلى هؤلاء الذين لم يكن في أذهانهم سوى شغفهم بالعلم.

وحين ذُكر اسم هيرتز، استعدت ذكرى الأمواج الهيرتزية، ونصحت السيد إيستمان بالتوجه إلى الفيزيائيين في جامعة روتشستر ليتعرفوا على عظمة الإنجازات التي حققها كل من هيرتز وماكسويل. مع ذلك، أكدت له حقيقة جوهرية: أن التاريخ العلمي بأكمله يُظهر أن أعظم الاكتشافات التي غيرت مسار الإنسانية كانت نتاج شغف وفضول معرفي خالص، وليس رغبة في تحقيق منفعة مباشرة.

«الفضول والشغف؟» تساءل السيد إيستمان بدهشة.
«نعم»، أجبته، «إن الفضول، تلك الشرارة التي قد تقودنا إلى اكتشافات عظيمة أحيانًا، أو إلى نتائج لا تحمل أيَّ تطبيق عملي في أحيان أخرى، يُعدّ السمة الأبرز للفكر الإنساني في عصرنا الحديث. لكنه ليس سمةً جديدة؛ إذ تمتد جذورُه إلى عصر غاليليو، وفرانسيس بيكون، والسير إسحاق نيوتن. هذا الفضول، بطبيعته الحرة وغير المقيدة، هو ما يجب أن يكون في صلب أهداف مؤسساتنا التعليمية. فكلما تجنبت هذه المؤسسات الانزلاق نحو التركيز على التطبيقات المادية المباشرة، زادت قدرتها على الإسهام في رفاهية البشرية، وتحقيق الإشباع الفكري العميق الذي أصبح بمثابة الشغف الأعظم للفكر الإنساني الحديث.»

******

ما يمكن أن يُقال عن هاينريش هيرتز، الذي عمل بصمتٍ في زاوية متواضعة من مختبر هلمهولتز (Helmholtz’s laboratory) في أواخر القرن التاسع عشر، ينطبق أيضًا على العلماء والرياضيين في مختلف بقاع العالم وعلى مدى قرون طويلة مضت. نحن اليوم نعيش في عالم قائم على الكهرباء، تلك القوة التي أصبحت جوهر حياتنا الحديثة. فإذا طُلب منا تحديد الاكتشاف الذي ترك الأثر الأعمق على العالم، فإن الإجابة ستكون بلا شك: الكهرباء. لكن السؤال الأهم يظل: من هم أولئك الذين قدّموا الاكتشافات الجوهرية التي أطلقت شرارة هذا التقدم الكهربائي الهائل؟

الإجابة تحكي قصة عظيمة من الإلهام والشغف. كان بطل تلك القصة هو مايكل فاراداي (Michael Faraday)، ابن الحداد البسيط، الذي بدأ حياته المهنية كمتدرب في تجليد الكتب. وفي عام 1812، وهو في الحادية والعشرين من عمره، اصطحبه صديق إلى المؤسسة الملكية لحضور سلسلة محاضرات ألقاها السير همفري ديفي (Humphry Davy) حول الكيمياء. لم يكتف فاراداي بالحضور، بل دوّن ملاحظات دقيقة وأرسلها إلى ديفي، مما لفت انتباه هذا العالم البارز. وفي العام التالي، عُيّن فاراداي مساعدًا لديفي في مختبره، حيث بدأ رحلته العلمية. وبعد عامين، انطلق معه في رحلة علمية إلى القارة الأوروبية، زادت من توسيع آفاقه وخبرته.

بحلول عام 1825، تولى فاراداي منصب مدير مختبر المؤسسة الملكية، وظل يشغل هذا المنصب بتفانٍ وإبداع لأكثر من نصف قرن، تاركًا بصمةً خالدةً في تاريخ العلم. في البداية، انصبّ تركيزه على الكيمياء، لكنه سرعان ما تحول نحو الكهرباء والمغناطيسية. كان هذا المجال مليئًا بالألغاز التي حاول الكثير من العلماء الإجابة عنها، أمثال أورستد وأمبير وولاستون. هنا بزغ نجم فاراداي، الذي أزاح الكثير من الغموض. ففي عام 1841، اكتشف الحث الكهربائي، وبعد ذلك بأربع سنوات، كشف تأثير المغناطيسية على الضوء المستقطب.

إن اكتشافاته الأولى، مثل الحث الكهربائي، كانت حجر الزاوية للعديد من التطبيقات العملية التي جعلت من الكهرباء قوةً هائلةً أسهمت في تحسين حياة البشر. أما اكتشافاته اللاحقة، التي لم تكن بنفس الأثر العملي، فقد جاءت مدفوعة بشغف فكري خالص. بالنسبة لفاراداي، لم يكن دافعه في البحث والعمل هو المنفعة أو الربح؛ بل كان الفضول هو المحرك الذي قاده لحل ألغاز الكون، بدايةً من الكيمياء وصولًا إلى الفيزياء.

لم يكن الفضول بالنسبة لفاراداي مجرد صفة شخصية، بل كان نهجًا في الحياة. لم تُقيده فكرة الفائدة المباشرة، ولم يكن ليتردد لحظة في متابعة تساؤلاته العلمية مهما بدت بعيدة عن الواقع العملي. في النهاية، أثمرت تجاربه عن فوائد عظيمة للبشرية، لكن تلك المنافع والفوائد والتطبيقات العملية لم تكن يومًا هدفه. لقد كان الفضول، مصحوبًا بشغفه وإصراره، هو القوة التي قادت فاراداي ووجهت خطاه.

في عصرنا الحالي، من المهم أن ندرك حقيقة أن مساهمة العلم في جعل الحروب أكثر تدميرًا وبشاعة كانت نتيجةً عرضيةً وغير مقصودة للنشاط العلمي. فقد أشار اللورد رايلي (Lord Rayleigh)، رئيس الجمعية البريطانية لتقدم العلوم، في خطاب حديث، إلى أن المسؤولية الحقيقية عن الاستخدام المدمر للنتائج العلمية تقع على عاتق حماقة الإنسان وغبائه، لا على نوايا العلماء وإرادتهم وأبحاثهم.

لقد كان البحث العلمي في كيمياء مركبات الكربون، الذي أثمر فوائد عظيمة للبشرية، مثالًا حيًا على هذه المفارقة. فقد أدى إلى اكتشاف التفاعلات بين حمض النيتريك ومركبات مثل البنزين والجلسرين والسليلوز، مما أسفر عن إنتاج صبغات الأنيلين المفيدة. لكن هذا البحث ذاته كشف عن مادة النيتروجليسرين، التي امتزجت فيها الاستخدامات البنَّاءة النافعة بالاستخدامات الهدامة المُدمِّرة.

وفي وقت لاحق، أظهر ألفريد نوبل أن خلط مادة النيتروجليسرين مع مواد أخرى يمكن أن يُنتج مادةَ الديناميت، وهي مادة متفجرة لكنها أكثر أمانًا عند التعامل معها. لعب الديناميت دورًا محوريًا في التقدم التكنولوجي، حيث ساهم في شق الأنفاق، وبناء السكك الحديدية، وتسهيل التعدين في المناطق الجبلية. ومع ذلك، لم يسلم هذا الإنجاز العلمي من سوء الاستخدام، إذ استُغل في أعمال الحرب والدمار على أيدي السياسيين والعسكريين.

لكن هل يمكن إلقاء اللوم على العلماء في هذا؟ بالطبع لا. فالعلماء ليسوا أكثرَ مسؤولية عن ذلك من مسؤوليتهم عن حدوث الزلازل أو الفيضانات المدمرة. الغازات السامة، على سبيل المثال، تُظهر كيف يمكن أن يُستخدم العلم لخدمة البشرية أو لإيذائها، بناءً على نوايا ورغبات البشر. حتى تاريخيًا، قضى العالِم الروماني بلينيوس الأكبر (Pliny) نحبه بعد استنشاق ثاني أكسيد الكبريت خلال ثوران بركان (فيزوف) قبل ألفي عام. ولم يكن العلماء حينها قد عزلوا الكلور أو ابتكروا غاز الخردل. هذه المواد في أصلها كانت أدوات علمية محايدة، يمكن أن تُسخر لفائدة البشر ونفعهم أو لضررهم وهلاكهم.

وعندما بلغت الطائرةُ مرحلةَ الكمال كاختراعٍ رائع يفتح آفاق السماء، ظهرت عقولٌ مريضة وقلوب ملأها الحقد لتحوّل هذا الابتكار البريء إلى أداة للدمار الشامل. هذا الاستخدام الشنيع لم يكن يومًا في نوايا المخترعين، ولم يكن نتاج الجهد العلمي المخلص.

حتى في مجال الرياضيات البحتة، نجد أمثلة بارزة على كيفية تطور الأفكار العلمية البحتة إلى تطبيقات عملية عظيمة. «الهندسة غير الإقليدية»، التي أحدثت ثورة في القرن الثامن عشر والتاسع عشر، كانت ثمرة عبقرية كارل فريدريش جاوس (Carl Friedrich Gauss)، أحد أعظم علماء الرياضيات. ومع ذلك، لم يجرؤ جاوس على نشر أفكاره تلك لمدة ربع قرن. كانت هذه الهندسة هي الأساس الذي بنيت عليه نظرية النسبية لأينشتاين، بما تحمله من تطبيقات غير مسبوقة.

وبالمثل، ظهرت «نظرية المجموعات» كنظرية رياضية مجردة لا تطبيق عملي لها، وكانت نتاج شغف العلماء بالمعرفة. لكنها أصبحت فيما بعد حجر الزاوية لنظرية الكم، وتُستخدم اليوم على نطاق واسع في مجالات لا يدرك مستخدموها غالبًا جذورها الفكرية.

أما حساب الاحتمالات، فقد وُلد من محاولات رياضيين لفهم المقامرة وإضفاء طابع عقلاني عليها. ورغم فشلهم في تحقيق هدفهم الأولي، أصبحت هذه النظرية لاحقًا أساسًا للتأمين الحديث، وأحد الركائز الكبرى للإنجازات الفيزيائية في القرن التاسع عشر.

هذه الأمثلة توضح كيف يتحول الفضول العلمي المجرد، الذي يبدو أحيانًا بعيدًا عن الواقع، إلى قوة دافعة تُطلق البشرية نحو آفاق جديدة وغير متوقعة، تحمل معها الخير — أو الشر — بحسب اختيار الإنسان.

بلغت عبقرية البروفيسور ألبرت أينشتاين أوجها حين أُميط اللثام عن حقيقة علمية مدهشة: فقد صاغ هذا الفيزيائي الرياضي الفذ، قبل خمسة عشر عامًا، معادلات رياضية ساهمت في فك لغز علمي عظيم يتعلق بالسيولة الاستثنائية لعنصر الهيليوم عند اقتراب درجة حرارته من الصفر المطلق.

في ندوة نظمتها الجمعية الكيميائية الأمريكية حول التفاعلات الجزيئية، أشار البروفيسور فريتز لندن (Fritz London)، من جامعة باريس، والذي يشغل حاليًا منصب أستاذ زائر في جامعة ديوك، إلى أن الفضل في مفهوم «الغاز المثالي» يعود لأينشتاين، استنادًا إلى أوراق بحثية نشرها بين عامي 1924 و1925.
لم تتناول هذه الأبحاث الشهيرة نظرية النسبية، بل تعمقت في مسائل بدت حينها مجردةً وبعيدةً عن التطبيق العملي. فقد ناقش أينشتاين خصائص «الغاز المثالي» عند درجات الحرارة المنخفضة للغاية، إلا أن العلماء آنذاك، الذين كانوا يدركون أن الغازات تتكثف لتصبح سوائل في مثل هذه الظروف، لم يولوا اهتمامًا يُذكر لعمله. وهكذا، ظل هذا الإسهام العلمي طي النسيان لفترة طويلة.

لكن اكتشافًا حديثًا قلب الموازين، مذكِرًا العالَمَ بأن الأفكار التي تبدو بلا جدوى في لحظتها قد تحمل بين طياتها حلولًا عظيمة لألغاز المستقبل. فقد كشف السلوك العجيب للهيليوم السائل عن أبعاد جديدة غير متوقعة لأفكار أينشتاين التي كانت مُهمَلة. فبخلاف السوائل التقليدية التي تزداد لزوجتها مع انخفاض درجات الحرارة، يتسم الهيليوم السائل بخصائص فريدة تتحدى هذه القاعدة. على سبيل المثال، عند درجة حرارة تُعرف بنقطة «دلتا» (2.19 درجة فوق الصفر المطلق)، يُظهر الهيليوم تدفقًا استثنائيًا يفوق تدفقه عند درجات حرارة أعلى، ليبدو كأنه يجمع بين خصائص السائل والغاز في آن واحد.

الأمر الأكثر إثارة للدهشة هو قدرة الهيليوم السائل على توصيل الحرارة بكفاءة مذهلة. إذ عند نقطة «دلتا»، يتفوق الهيليوم السائل في نقل الحرارة على النحاس في درجة حرارة الغرفة بأكثر من 500 مرة، مما يمثل لغزًا محيرًا للفيزيائيين والكيميائيين.
وأوضح البروفيسور فريتز أن فهم هذه الظاهرة يصبح ممكنًا إذا نظرنا إلى الهيليوم السائل من منظور نظرية «بوز-أينشتاين»، مستعينين بالمعادلات التي وضعها أينشتاين في عشرينيات القرن الماضي. وأضاف أن مفاهيم التوصيل الكهربائي في المعادن قد تساهم في تفسير هذه السيولة الفريدة.

ولتقريب الفكرة، يمكن تشبيه سلوك الهيليوم السائل بحركة الإلكترونات في المعادن، التي تُفسر ظاهرة التوصيل الكهربائي. بهذا التشبيه البسيط، يتجلى تكامل الأفكار الفيزيائية في تقديم فهم أعمق للظواهر الأكثر تعقيدًا في عالم المادة.

أما في عالم الطب والصحة العامة، تصدّر علم البكتيريا المشهد لأكثر من نصف قرن، حاملاً في طياته قصصًا ملهمة عن الإبداع والفضول العلمي. فما هي حكاية هذا العلم؟

بعد الحرب الفرنسية البروسية عام 1870، أسست الحكومة الألمانية جامعة ستراسبورغ الشهيرة، ليكون أولَ أستاذ لعلم التشريح فيها هو فيلهلم فون فالديير (Wilhelm von Waldeyer). وفي مذكراته، يروي فالديير أنه في أول فصوله الدراسية، لفت انتباهه طالب شاب، هادئ الطباع ومفعم بالاستقلالية، يبلغ من العمر سبعة عشر عامًا فقط، ويدعى بول إرليخ (Paul Ehrlich).

رغم أن دراسة التشريح في تلك الحقبة اعتمدت بشكل أساسي على التشريح المباشر وفحص الأنسجة تحت المجهر، إلا أن إرليخ بدا مختلفًا. لم يكن يولي اهتمامًا كبيرًا للجوانب التقليدية، بل انشغل بأشياء أخرى.
كان مكتبه يتحول تدريجيًا إلى لوحة متناثرة بالبقع الملونة، مما أثار فضول البرفيسور فالديير. وفي إحدى المرات، اقترب منه ليسأله عن سر تلك الألوان الزاهية. أجاب إرليخ بجملة مقتضبة لكنها عميقة المعنى: «أنا ألهو وأجرب.» ابتسم له فالديير وقال: «استمر في لهوك واستكشافك.»

ترك فالديير إرليخ ليتابع شغفه، مدركًا أنه أمام موهبة فريدة. وهكذا، استمر إرليخ في تجاربه التي بدت آنذاك عبثية، لكنها استندت إلى حدس علمي عميق. وبفضل هذا الشغف، ساهم إرليخ في تأسيس علم البكتيريا، الذي تطور لاحقًا على يد روبرت كوخ وزملائه. كما أنه ابتكر تقنيات لصبغ الدم، مما أتاح للطبيب الحديث فهمًا معمقًا لكريات الدم الحمراء والبيضاء، وأصبحت تقنياته أساسًا لفحوص الدم التي تُجرى يوميًا في آلاف المستشفيات حول العالم.

ما كان يومًا مجرد تجارب بسيطة في غرفة تشريح بستراسبورغ، تحول إلى إنجاز طبي غيّر مجرى التاريخ البشري بأكمله.

ولا يقتصر الإبداع العلمي على الطب وحده؛ ففي مجال الصناعة، تتكرر القصص الملهمة. يروي البروفيسور بيرل من معهد كارنيجي للتكنولوجيا قصة الكونت الفرنسي شاردونيه (Chardonnet)، مؤسس صناعة الرايون الحديثة.
ابتكر شاردونيه تقنية تعتمد على محلول من قطن النيترو ممزوجًا بالإيثر والكحول، حيث يُضغط الخليط عبر أنابيب دقيقة إلى الماء، لتتخثر خيوط نترات السليلوز. لكن حدثت مفاجأة غيّرت مجرى الصناعة.
أثناء أحد الأيام في مصنعه في بيزانسون، تسبب عطل في انقطاع المياه اللازمة لتخثر الخيوط. ولدهشة العمال، اكتشفوا أن العملية أصبحت أكثر كفاءة وفعالية بدون الماء. ومن هذه المصادفة، وُلدت تقنية الغزل الجاف، التي أصبحت فيما بعد من أعمدة الصناعة الحديثة.

هكذا، سواء في مختبرات العلم أو مصانع الصناعة، يكمن وراء كل إنجاز عظيم شغف بالتجربة وفضول لا يعرف الحدود. هذه هي الحكاية الدائمة للإبداع البشري.

******

لا أدّعي أن كل ما يجري في مختبرات العلم سيثمر بالضرورة عن استخدام عملي، ولا أزعم أن الفائدة المباشرة هي المبرر الأوحد لكل جهد علمي. لكنني أدعو إلى التحرر من قيود فكرة «الفائدة» الضيقة، وإطلاق العنان للروح الإنسانية لتغوص في أعماق المجهول. قد يبدو السماح لبعض ذوي العقول الغريبة بمواصلة تجاربهم التي تبدو غير ذات جدوى هدرًا للأموال والموارد، لكنه في الحقيقة تحرير للعقل البشري، ودعوة لفتح أبواب المغامرة أمام الروح الإنسانية، كما فعل هايل، وراذرفورد، وأينشتاين، وغيرهم من الرواد الذين وسعوا حدود معرفتنا بالعالم والكون.

لم يكن دافع راذرفورد، أو نيلز بور، أو ميليكان هو البحث عن استخدامات عملية لأبحاثهم، بل كان شغفهم هو فهم الذرة وكشف أسرارها. وبهذا الفضول البحت، حرروا طاقات هائلة غيرت مجرى التاريخ. لم تكن النتائج العملية المذهلة لأعمالهم تبريرًا لما قاموا به؛ لأن الإبداع العلمي الحقيقي لا يخضع لأوامر أو تعليمات. لا يمكن لأي مدير أو مؤسسة أن تُوجه العقول العظيمة نحو وجهات محددة، فهذه العقول تعمل في فضاء الحرية، وتبدع حين تُترك لاستكشاف المجهول دون قيود.

قد يُنظر إلى ما يُنفق على العلوم البحتة مثل علم البكتيريا كهدر، لكنه هدر لا يُقاس أمام الفوائد الجليلة التي جلبتها اكتشافات أمثال باستور، وكوخ، وإرليخ، وثيوبالد سميث. هؤلاء العلماء، الذين كانوا بحق فنانين في مجالاتهم، لم تُقيدهم فكرة الفائدة المباشرة. قادهم شغفهم بالبحث إلى اكتشافات غيرت وجه العالم، وألهمت أجيالًا كاملة لتبني النهج نفسه في مختبرات العلم.

ليس انتقادي موجهًا إلى المؤسسات التي تقوم على الغايات والتطبيقات العملية المباشرة، مثل كليات الهندسة والقانون، فهذه ضرورة لا غنى عنها. بل إن من المثير للإعجاب أن كثيرًا من الإنجازات النظرية العظيمة وُلدت من رحم المشكلات العملية التي واجهت الصناعة أو المختبرات. هذه المشكلات حفزت أسئلة نظرية قد لا تجد حلولًا فورية، لكنها فتحت آفاقًا جديدة، قد تكون في البداية بلا جدوى ظاهرة، لكنها تحمل بذور إنجازات عظيمة مستقبلًا، سواء في الإطار العملي أو النظري.

حين نتأمل تراكم المعرفة التي تبدو «غير مفيدة»، نجد أنها كانت الأساس الذي بُنيت عليه الإنجازات الكبرى فيما بعد. حل المشكلات العملية يمكن أن يكون دافعًا للعلم الخالص، كما أن العلماء البحتين غالبًا ما يساهمون في التطبيقات العملية. ماركوني، على سبيل المثال، استفاد من أفكار العلماء الذين سبقوه، وصاغ منها أدوات أفادت البشرية. إديسون، رغم عظمته، يمكن أن يُنظر إليه كمن بَنَى على اكتشافات الآخرين، لكنه كان رجل تطبيقات أكثر منه رجل نظريات. أما باستور، فقد كان حالة فريدة جمعت بين شغف العالم وعبقرية حل المشكلات اليومية.

واجه باستور تحديات مثل أزمة كروم العنب الفرنسية أو تحسين تخمير البيرة، ولم يكتفِ بحلها، بل صاغ منها استنتاجات نظرية أثرت بعمق على العلوم. ما بدا حينها اكتشافات «بلا فائدة» أصبح ركيزة لثورة علمية لاحقة، تُثبت أن شغف البحث لا حدود له، وأن الفضول العلمي هو مفتاح التقدم البشري الحقيقي.

انطلق بول إرليخ بدافع فضوله العلمي ليخوض معركته ضد مرض الزهري، مسخرًا جهوده حتى توصل إلى العلاج المعروف بالسالفارسّان. وعلى النهج ذاته، جاء اكتشاف الأنسولين على يد بانتينغ لعلاج السكري، واستُخلص الكبد من قِبل مينوت وويبل لعلاج فقر الدم الخبيث. لم تكن هذه الإنجازات سوى ثمار تراكم ذلك العلم الذي «لا ينفع» الذي شكل البنية التحتية لهذه الاكتشافات العظيمة.

يتضح لنا أن الاكتشاف العلمي ليس وليد لحظة عبقرية منفردة، بل هو نتاج سلسلة متصلة من الجهود التي تتضافر عبر الزمن. يبدأ كل اكتشاف برؤية صغيرة تتطور على أيدي عقول مختلفة، حتى تكتمل الصورة النهائية بلمسة عبقري قادر على جمع الأجزاء المتناثرة ليُحدث الأثر الحاسم. وكما يبدأ نهر الميسيسيبي بجدول صغير ينساب في أعماق الغابة، ليتلقى تيارات عديدة ويصبح نهرًا عظيمًا يفيض بقوة، كذلك هو العلم: بناء يتدفق من مصادر شتى صغيرة ليصير في النهاية صرحًا ضخمًا عريقًا.

رغم أنني لا أستطيع التوسع في هذا الجانب، إلا أنني أؤكد أن مساهمات الكليات المهنية، على مدى قرن أو أكثر، لن تقتصر على تخريج المهندسين أو الأطباء أو المحامين، بل تتجلى قيمتها في إفساح المجال لأنشطة تبدو بلا غاية ظاهرة. هذه الأنشطة، التي قد يعتبرها البعض عبثية، هي الجذور التي تُنبت أعظم الاكتشافات.

إن التأمل في هذه الحقيقة يكشف عن القيمة العظيمة للحرية الفكرية والروحية، تلك الحرية التي تُشكل جوهر التجربة الإنسانية. في العلوم والرياضيات، كما في الفن والموسيقى، السعي نحو المعرفة والإبداع يُبرَّر بذاته، لأنه يلبي حاجة الروح البشرية إلى السمو والارتقاء.

تكتسب مؤسساتنا الأكاديمية قيمتها الحقيقية عندما تكون فضاءات لتحرير العقول والقلوب من قيود الفائدة المباشرة والتطبيقات العملية. قصيدة ملهمة، سيمفونية متقنة، لوحة تُحرك الوجدان، أو اكتشاف علمي عميق، كلها تُبرِّر بذاتها وجود هذه المؤسسات دون حاجة إلى أي تفسير إضافي.

ومع ذلك، نجد أنفسنا اليوم في زمن تتعرض فيه الحرية الفكرية لتهديدات خطيرة، كما هو الحال في بعض الدول حيث حُوِّلت الجامعات إلى أدوات تخدم أفكار سياسية أو اقتصادية أو عرقية ضيقة. العدو الحقيقي للإنسانية ليس نقص الموارد أو المشكلات التقنية، بل هو محاولات تقييد الروح البشرية ومنعها من التحليق.

هذه الحرية التي امتدت جناحيها يومًا في دول مثل ألمانيا وإيطاليا وبريطانيا والولايات المتحدة، كانت هي القوة الدافعة وراء أعظم إنجازات الفكر والإبداع. وهي ذات الفكرة التي ألهمت فون هومبولت لتأسيس جامعة برلين وسط محنة غزو نابليون، والتي دفعت جيلمان لوضع حجر الأساس لجامعة جونز هوبكنز، لتصبح نموذجًا تحتذي به الجامعات في الولايات المتحدة، وإن بدرجات متفاوتة.

إن مبرر الحرية الروحية لا يقف عند حدود الفكر أو الفن، بل يتجاوز ذلك ليصبح تعبيرًا عن أرقى أشكال التسامح مع الاختلافات البشرية. إن تاريخ الإنسانية يثبت أن عبثية التمييز بين الإبداع على أسس عرقية أو دينية أو قومية هي أحمق ما يمكن أن ترتكبه البشرية.

فهل نطمح إلى سيمفونيات ولوحات واكتشافات علمية تعبّر عن حقيقة الإنسان، أم إلى إبداعات مسيحية أو يهودية أو إسلامية مقيدة بأطر ضيقة؟ الحقيقة التي لا جدال فيها هي أن عظمة الروح البشرية تكمن في تنوعها، وأن هذا التنوع يغني التجربة الإنسانية ويثريها بلا حدود.

******

من بين أبرز نتائج السياسات القمعية التي مارستها بعض الأنظمة الأجنبية، يبرز معهد الدراسات المتقدمة (Institute for Advanced Study) كقصة ملهمة للتحدي والإبداع. هذا المعهد العريق، الذي أسس عام 1930 بجهود السيد لويس بامبرغر وشقيقته السيدة فيليكس فولد، يمثل رمزًا للحرية الأكاديمية وتكريمًا للعقول العظيمة.

اختيرت مدينة برينستون مقرًا لهذا المعهد، ليس فقط لارتباط المؤسسين العاطفي بولاية نيو جيرسي، بل أيضًا لما تمتاز به مدينة برينستون من جامعة صغيرة ذات جودة أكاديمية استثنائية. ومنذ انطلاقه، استفاد المعهد من دعم جامعة برينستون، التي قدمت مواردها الغنية من مكتبات ومختبرات، فضلًا عن استقطاب علماء بارزين من هيئة تدريسها.

شهد عام 1933 انطلاقة المعهد الحقيقية بفضل فريقه الأكاديمي اللامع، الذي ضم أسماءً رائدة مثل فيبلن، وألكسندر، ومورس في الرياضيات. وميريت، ولو، والسيدة جولدمان في العلوم الإنسانية. وستيوارت، وريفيلر، وميتراني في الاقتصاد والسياسة. ولم يكن هذا إلا البداية.

للمفارقة العجيبة، يعود جزء كبير من نجاح المعهد إلى السياسات القمعية التي فرضها النظام النازي في ألمانيا، والتي دفعت عباقرة مثل أينشتاين، وفايل، وفون نيومان، وهرزفيلد، وبانوفيسكي للهجرة إلى الولايات المتحدة. هؤلاء العلماء، إلى جانب الشباب الواعد الذي انضم لاحقًا، أسسوا قوة فكرية هائلة ساهمت في نهضة الفكر والعلم، وأكدت على أهمية الحرية الأكاديمية كركيزة للتقدم الإنساني.

يمثل معهد الدراسات المتقدمة نموذجًا فريدًا للتنظيم الأكاديمي البسيط والفعّال. يتألف من ثلاث كليات: كلية الرياضيات، كلية الدراسات الإنسانية، وكلية السياسة الاقتصاد. تضم كل كلية مجموعة من الأساتذة الدائمين والأعضاء المتجددين، الذين تتغير عضويتهم سنويًا. يتمتع الجميع بحرية تامة لإدارة وقتهم وجهودهم كما يرون مناسبًا، دون قيود بيروقراطية أو تدخل إداري.

يوفر المعهد بيئة استثنائية تذوب فيها الحواجز بين الأساتذة والأعضاء والزوار. يتمتع الجميع بحقوق متساوية، ويُتاح لهم التعاون بحرية، أو العمل في عزلة تامة إذا ما اقتضت أبحاثهم ذلك. لا اجتماعات تُعقد، ولا لجان تُشكل، مما يخلق بيئة مثالية للتأمل والإبداع.

إن هذه البساطة الإدارية لا تتسامح مع الجمود أو التهاون؛ فالمعهد هو موطن للعقول اللامعة فقط. عالم الرياضيات قد يغرق في معادلاته دون إزعاج، والمفكر الإنساني يستمر في استكشافاته، والاقتصادي يصيغ نظرياته، دون تدخل أو مقاطعة.

هكذا، يظل معهد الدراسات المتقدمة شاهدًا على قوة الحرية الأكاديمية، ومنارة تلهم المؤسسات الأكاديمية حول العالم بأن الإبداع الإنساني يزدهر في أجواء التحرر والانفتاح، بعيدًا عن قيود البيروقراطية وضغوط الإنتاجية المباشرة.

لإيضاح فكرتي حول أهمية الحرية الأكاديمية، سأشارك بعض الأمثلة المباشرة. ذات مرة، حصل أحد أساتذة جامعة هارفارد على منحة دراسية للقدوم إلى برينستون. كتب لي بحماس سائلاً: «ما هي واجباتي؟» فأجبته ببساطة: «ليس لديك أي واجبات، لديك فقط فرص».

ومن هذه الفرص، حكاية شاب نابغٍ في الرياضيات قضى عامًا في برينستون. عندما حان وقت رحيله، سألته عما يعنيه له هذا العام. أجابني قائلاً: «لقد كانت الرياضيات تتقدم بوتيرة مذهلة، والمراجع الأكاديمية تتزايد بشكل مرهق. مضى أكثر من عقد على حصولي على درجة الدكتوراه، وأصبحت متابعة التطورات معقدة وشاقة. لكن هذا العام هنا كان كرفع الستائر عن نافذتي، حيث امتلأت الغرفة بالضوء والنوافذ انفتحت على مصراعيها. لدي الآن فكرتان لبحثين جديدين، وسأبدأ الكتابة قريبًا».
سألته بفضول: «وإلى متى ستستمر هذه الحالة من الإلهام؟» فأجاب: «ربما خمس سنوات، وربما عشر». قلت: «وماذا بعد ذلك؟» فابتسم بثقة قائلاً: «سأعود هنا ثانية!».

مثال آخر يروي قصة أستاذ جامعي من الغرب الأمريكي جاء إلى برينستون في ديسمبر للعمل مع البروفيسور موري. نصحه موري بأن يلتقي أيضًا بالبروفيسور بانوفيسكي وسفارزنسكي. وها هو يجد نفسه مشغولًا معهم جميعًا، ويقول مبتسمًا: «سأبقى حتى شهر أكتوبر». وعندما حذرته من حرارة الصيف، أجاب: «سأكون منشغلًا وسعيدًا جدًا لدرجة أنني لن ألاحظ ذلك!».

الحقيقة أن الحرية الأكاديمية هنا لا تؤدي إلى الركود والكسل، بل قد تحمل خطر الإفراط في العمل. أحد الأعضاء الإنجليز علق مازحًا: «هل يعمل الجميع هنا حتى الثانية صباحًا؟».

ورغم عدم وجود مبنى رسمي للمعهد بعد، فإن العمل يجري بتناغم. الرياضيون يستضيفهم مبنى فاين بجامعة برينستون، الدارسون للعلوم الإنسانية يجدون مكانهم في قاعة مكورميك، والاقتصاديون يعملون في أجنحة فندق برينستون إن. أما مكتبي، فهو متواضع، يقع بين متاجر البلدة ومكاتب المحامين والأطباء. ومع ذلك، نفتقد الروابط غير الرسمية التي تعزز التفاعل الفكري، وهو ما سنعالجه قريبًا ببناء قاعة «فولد»، التي ستُحافظ على طابع البساطة والمرونة الذي يُميز معهدنا.

لا نطلق وعودًا محددة، بل نغذي الأمل بأن البحث الحر وغير المقيّد عن المعرفة، مهما بدا «علمًا لا ينفع»، سيظل باقيًا ومستمرًا، تمامًا كما استمر في الماضي وسيستمر في المستقبل.

مع ذلك، فإن قيمة هذا المعهد لا تُقاس فقط بنتائجه، بل بما يمثله. إنه جنة للعلماء، كما هو للشعراء والموسيقيين، الذين اكتسبوا بحق الحرية الكاملة للسير وفق إبداعاتهم الخاصة. عندما تُتاح لهم هذه الحرية، يحققون أعلى مراتب الإنجاز ويتركون بصماتهم الخالدة في سجل الإنسانية.

Facebook
Twitter
LinkedIn

مقالات ربما تعجبك

Your Promotional Content goes here

مقالات ذات صلة