طالعتنا جامعة الأزهر بخبر يوم الخميس الموافق الثالث والعشرين من شهر يناير لعام ألفين وخمسة وعشرين، تحت عنوان «جامعة الأزهر تدرس تعريب الدراسة في كلية الطب». وسرعان ما انتشر هذا الخبر وأثار جدلًا واسعًا عبر مواقع التواصل الاجتماعي بين أنصار هذا القرار، الذين يرون فيه شرارة لإعادة أمجاد اللغة، وبين المعارضين الذين يعتبرون أن مثل هذا القرار غير مجدٍ، بل على العكس تمامًا، ويصفونه بأنه قرار غير صائب.
وكان نص الخبر كما نشرته جريدة المصري اليوم:
«في بيان أصدره المركز الإعلامي لجامعة الأزهر، أكد أن الجامعة تجري دراسة علمية شاملة لبحث إمكانية تعريب مناهج الطب والصيدلة وطب الأسنان، مع التركيز على التقييم الأكاديمي والتقني لضمان تطبيق هذا المشروع بما يتماشى مع المعايير العالمية للتعليم الطبي».1
ونحن لسنا هنا لكي نؤيد القرار أو ننتقده، بل لنحلل هذا القرار وندرس معًا منافعه ومساوئه بشكل علمي وموضوعي.
لماذا يعتبر البعض خطوة التعريب نافعة؟
يرى المؤيدون لهذا القرار، المرحبون به والمُهللون له، أن هذه الخطوة تُعد من الخطوات الهامة لاستعادة ما يُعرف بـ«عصر المجد العلمي العربي».
وهنا قد يخطر ببالك، عزيزي القارئ، سؤالٌ راودني أيضًا وهو السبب وراء كتابة هذه المقالة: هل العائق بيننا وبين العلم الحديث هو عائق اللغة؟ وهل إذا نجحنا في تعريب العلوم ستستعيد هذه المنطقة من العالم السيطرة والمجد العلمي؟
للإجابة عن هذا السؤال، ينبغي علينا أن نمر سريعًا على هذا العصر «عصر المجد العلمي العربي»، ونقف عند الأسباب الحقيقية التي كانت وراء هذا التقدم، ما استطعنا إلى ذلك سبيلًا.
عصر المجد العلمي العربي – العصر الذهبي للإسلام
هو ذلك العصر الذي يرجح المؤرخون أنه بدأ مع تأسيس الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور لبيت الحكمة في الفترة بين عامي (135هـ – 158هـ)، والذي جعل من بغداد –عاصمة الخلافة آنذاك– منارةً للفكر والأدب. وكان لهذا التأسيس ما بعده؛ إذ بدأت حقبة جديدة كان العلم والمعرفة عنوانًا لها، وقد نشأ خلالها العديد من العلماء المسلمين البارزين، أمثال ابن سينا (370هـ – 427هـ) ومحمد بن موسى الخوارزمي (164هـ – 232هـ)، وغيرهم. فاستحق هذا العصر بحق أن يُطلق عليه «العصر الذهبي للإسلام».
كيف حقق بيت الحكمة هذه النقلة في المجتمع العربي؟ وهل الطريقة التي أصلح بها بيت الحكمة الحياة العلمية في عصره ملائمة لهذا العصر؟
للإجابة عن السؤال الأول، لا بد من الرجوع إلى التاريخ. كان من المعروف عن الخليفة العباسي أبو جعفر المنصور شغفه وولعه بعلوم الطب والفلك والأدب، فخصص مترجمين لترجمة الكتب الإغريقية والفارسية إلى اللغة العربية، واحتفظ بهذه الكتب في قصره. ومع مرور الوقت، ضاق القصر بكثرة هذه الكتب، حتى جاء الخليفة هارون الرشيد وأقام ديوانًا خاصًا بهذه الكتب أسماه «بيت الحكمة».
في عهد هارون الرشيد، توسعت حركة الترجمة بشكل كبير، حيث جعل بيت الحكمة مفتوحًا أمام الجميع من العلماء والقراء، واستمر هذا النهج في عهود الخلفاء الذين جاؤوا من بعده. بلغت أمور الترجمة والتعريب ذروتها في عهد الخليفة المأمون، الذي شهد عهده أسماء بارزة في حركة النهضة العلمية في مجالات الفلك، والطب، والفلسفة، ترجمةً وتأليفًا.
مع ذلك، دار الزمن دورته وتراجعت هذه الحركة العلمية، حتى قضى عليها التتار بقيادة هولاكو عندما سقطت بغداد في قبضته عام 656 هـ. ألقى الغزاة بما تبقى من كتب بيت الحكمة في نهر دجلة، لدرجة أن المياه أصبحت سوداء بسبب الحبر. ومع ذلك، نجح العالم نصير الدين الطوسي في الهروب بنحو 400 ألف مخطوطة ونقلها إلى مرصد مراغة، في محاولة لإنقاذ ما يمكن إنقاذه. بذلك، امتد تاريخ دار الحكمة عبر 32 خليفة عباسي.
وعليه، فقد بدأ عصر المجد العلمي العربي برؤية ثاقبة لرأس الدولة، بدءًا من الخليفة أبو جعفر المنصور، ثم هارون الرشيد، وصولًا إلى الخليفة المأمون. كانت الركيزة الأساسية لهذا التقدم العلمي هي حركة الترجمة. وبعدما تُرجمت الأعمال وقرأها العرب واستوعبوها، بدأت مرحلة التأليف، التي شكلت القاطرة التي دفعت بعصر النهضة العلمية.
لذلك إن أردنا تلخيص عصر بيت الحكمة في معادلة رياضية بسيطة، فستكون:
إرادة سياسية + ترجمة + تأليف = تقدم علمي
يعتقد المؤيدون لقرار جامعة الأزهر أن الجامعة تسعى بصدق إلى السير على نفس الطريق الذي سبق أن جُرّب مع بيت الحكمة، مستندين إلى الفكرة القائلة: «لن ينصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها».
ولا شك أن جامعة الأزهر صادقة في نواياها نحو التقدم، ولكن يبقى السؤال: هل تظل المعادلة المذكورة سابقًا قائمة؟ أم أن الزمان قد تغير؟
هذا هو جوهر الخلاف بين المؤيدين والمعارضين لهذا القرار. يرى المعارضون أن المعادلة التي نجحت في عصر بيت الحكمة لم تعد صالحة اليوم، بالنظر إلى اختلاف الظروف التاريخية والعلمية والاجتماعية بين عصر بيت الحكمة وعصرنا الحالي.
الفارق بين عصر بيت الحكمة وعصرنا الحالي:
- في عصر بيت الحكمة، سبق تلك الحقبة عصرٌ كان إنتاج الفكر والمعرفة العالمية فيه محدودًا.
- أحدث الكتب التي تُرجمت في عهد الخليفة أبو جعفر المنصور وخلفائه كانت تعود لعصور الإغريق والرومان والفرس، أي أن الفجوة الزمنية بين وقت تأليف تلك الكتب ووقت ترجمتها كانت واسعة.
- لم تكن هناك حركات واسعة لنشر المعارف كالتي نراها اليوم، مما جعل الترجمة حينها الوسيلة الأهم للوصول إلى العلم والمعرفة.
على سبيل المثال، تخيّل، عزيزي القارئ، أنك ركبت آلة زمنية وعدت إلى عصر هارون الرشيد، وكنت من سكان مصر. إذا أردت الوصول إلى معلومة من كتاب في بيت الحكمة، لكان عليك السفر آلاف الأميال إلى بغداد لتحقيق مبتغاك، مع تجاوز المعوقات السياسية والدينية والاجتماعية التي قد تواجهك خلال الرحلة.
أما إذا عدت إلى عصرنا الحالي، وأردت الحصول على نفس المعلومة، فلن يستغرق الأمر منك سوى ثوانٍ معدودة لتحصل عليها من مواقع الإنترنت، بغض النظر عن مكانك أو انتماءاتك.
وجهة نظر المعارضين:
ونظرًا لسهولة النشر العلمي والأدبي التي بدأت مع اختراع الطباعة، وصولًا إلى عصر الإنترنت، فقد أصبح النشر العلمي كثيفًا وسريعًا للغاية، إلى درجة تجعل من الصعب على الترجمات أن تلاحقه أو تواكبه.
كما يرى المعارضون أن الغلبة في هذا العصر للأعاجم من الغرب وأمريكا وغيرهم. لذا، إذا أردنا اللحاق بهم، فلا بد من تعلم علومهم بلغتهم الأصلية بشكل جيد، حتى نصل إلى مستواهم العلمي والمعرفي. ومن ثم، يمكننا نشر ما نضيفه من معرفة لاحقًا بلغتنا العربية، وقد يتقبل العالم ذلك حينذاك.
ويؤكد المعارضون ضرورة تعلم العلم الحديث بلغته، تمامًا كما فعل الأوروبيون في عصر نهضة الأندلس وقرطبة؛ فقد تعلموا العلوم الإسلامية وقرأوها بلغتها، ثم أضافوا عليها بلغاتهم الخاصة عندما تمكنوا من ذلك.
وإلا، فكيف سيتمكن الأطباء العرب من التعامل مع نظرائهم من الأعاجم في المؤتمرات العلمية الدولية؟ وكيف سيلتحق أحدهم ببرامج الدراسات العليا في جامعات الغرب؟ وكيف يمكننا أن نضيف للعلم أصلًا إذا كان أغلب ما وصلنا منه هو ترجمات قديمة؟
الخلاصة:
لا شك أن الأسئلة التي يطرحها المعارضون وغيرها من الأسئلة قائمة ومنطقية، ولا بد من الإجابة عليها أولًا إذا كنا صادقين في نوايانا تجاه التعريب. كما لا شك أن المؤيدين يطمحون لأن يكون هذا القرار بمثابة إشارة لانطلاق عصر نهضة جديد، سواء على صعيد اللغة، التي نعتبرها جميعًا جزءًا رئيسًا من هويتنا العربية والإسلامية، أو على صعيد العلم والمعرفة، اللذين يُعدّان أهم داعم للتقدم على كافة الأصعدة.
وعليه، فقد اخترت أن أقف في موقف المشاهد المراقب للأحداث. لن أتفق ولن أختلف، ولكن سأترك الأيام تُظهر لنا مدى صحة هذا القرار، سواء تم اتخاذه أم لا. وندعو الله أن يوفق جامعة الأزهر وقيادتها لاتخاذ القرار الصحيح.