مُنعت المرأة من تولي الخلافة؛ لأنها ناقصة عقل1. ومُنعت من تولّي القضاء؛ لأنها ناقصة عقل2. ومُنعت من السفر بدون محرم مخافة الفتنة؛ لأنها ناقصة عقل3. ومُنعت من تولّي المناصب كالوزارة والمجالس النيابية وغيرها؛ لأنها ناقصة عقل4. ومُنعت من التصويت في الانتخابات لأنها ناقصة عقل و«ربما تختار شخصًا يكون صاحب عضلات وهو شيوعي أو بعثي»5. ومُنعت مِن أن تشهد في المحاكم في الحدود؛ لأنها ناقصة عقل6. ومُنعت من تزويج نفسها؛ لأنها ناقصة عقل7. ومُنعت من تطليق نفسها — حتى لو أعطاها زوجها هذا الحق —؛ لأنها ناقصة عقل8. ومُنعت مِن أن تُسمِّيَ ابنَها ومولودَها؛ لأن تسمية الابن من حق الأب، «ولا يجب أن تسترجل فتدعي أنَّ مِن حقها تسمية أبنائها»9. ومُنعت حتى مِن أن تتساوى روحُها بعد موتها بروح الرجل، فجُعلت دية المرأة على النصف من دية الرجل؛ لأن الأنوثة نقصان10. ومُنع الرجل من أن يتوضأ من الماء الذي توضأت منه امرأة؛ لأنها ناقصة عقل والرجل لا يدري ماذا فعلت بالماء وماذا وضعت فيه11. ومُنعت مِن أن تكون إمامًا في الصلاة، لا بالرجال ولا بالنساء، ولا في الفرض ولا في النافلة؛ لأنها ناقصة عقل12. ومُنعت المرأة من التصرف في مالها الخاص إذا تزوجت، ليكون زوجُها هو المتحكم الوحيد في مالها؛ لأنها ناقصة عقل13. وفي تفسيره لقوله تعالى ﴿وَلَا تُؤْتُوا السّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ﴾ ذكر الإمام الطبري عن الضحاك والحسن قولهم: «ولا تؤتوا السفهاء أموالكم يعني: ولد الرجل وامرأته، وهي أسفه السفهاء»14. وقالوا إن الله لم يُرسل رسولًا أو نبيًا امرأة؛ لأن «صفة الكمال المطلوبة للأنبياء والرسل تتنافى مع الأنوثة»15.
كل هذا وغيرُه الكثير الذي أستنكر أن أضيع مزيد وقتٍ في ذكره، بل حتى لقد خجلت أن أذكرَ أشياءً أخرى، ومِن هذا الذي ترددت في ذكره كان ما ذكره القرطبي في تفسيره لقوله تعالى ﴿إنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ﴾، يقول القرطبي: «والعرب تُكنِّي عن المرأة بالنعجة والشاة… وقد يُكنَّى عنها بالبقرة والحجرة والناقة؛ لأن الكلَ مركوبٌ»16. أو ما ذكره الإمام الفخر الرازي — عليه سحائب الرحمات، فهذا رجل أحبه وليته ما قال ولا كتب هذا الكلام — في تفسيره لقوله تعالى ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا﴾ فيقول:
قوله: ﴿خَلَقَ لَكُمْ﴾ دليلٌ على أن النساءَ خلقن كخلق الدواب والنبات وغير ذلك من المنافع، كما قال تعالى: ﴿خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرضِ﴾ وهذا يقتضي أن لا تكون مخلوقةً للعبادة والتكليف، فنقول خلق النساء من النعم علينا، وخلقهن لنا، وتكليفهن لإتمام النعمة علينا لا لتوجيه التكليف نحوهن.17
لا أرغب في إهدار الكثير من الوقت في استعراض ما مارسه بعض الفقهاء والمفسرين من اجتهادات مجحفة في حق المرأة، وتقليلهم من شأنها، مستندين في ذلك إلى الحديث القائل بنقصان عقلها ودينها. ولكن، عند التأمل العميق في هذا الحديث الذي أخرجه البخاري ومسلم في صحيحيهما، نجد أن النص يستدعي قراءة نقدية دقيقة.
روى البخاري ومسلم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، قال:
خرج رسول الله ﷺ في أضحى – أو فطر – إلى المصلى فمرّ على النساء، فقال: يا معشر النساء، تصدقن، فإني أريتكن أكثر أهل النار. فقلن: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير. ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم من إحداكن. قلن: وما نقصان ديننا وعقلنا يا رسول الله؟ قال: أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلن: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلها. أليس إذا حاضت لم تصل ولم تصم؟ قلن: بلى. قال فذلك من نقصان دينها.18
أول ما يلفت النظر في هذا الحديث هو المناسبة التي ورد فيها، إذ يُذكر أنه قيل في صبيحة يوم العيد، سواء كان عيد الأضحى أم عيد الفطر، غير أن الراوي نفسه بدا متردّدًا في تحديد اليوم بدقة، فلم يستطع الجزم إن كان الحدث قد وقع في عيد الأضحى أم في عيد الفطر، وفي رواية أخرى: أن النبي قال هذا الكلام وهو عائد من المصلى وليس ذاهبًا إليه19، وهو أمر يثير الاستغراب بشأن الضبط الدقيق للرواية.
ولكن الأعجب من ذلك هو مشهد النبي ﷺ وهو يمرّ على النساء في صباح يوم العيد، ذلك اليوم الذي هو رمزٌ للفرح والبهجة، والذي ينتظره الناس ليكون يومًا يعمّه السرور، فإذا بالنبي — كما يُروى — يبدأ حديثَه مع النساء ليس بالتهنئة ولا بإلقاء كلمات المودة والسرور، بل بتحذير صارم: «تصدقن، فإني رأيتكن أكثر أهل النار». إن التأمل في هذا المشهد يدفعنا إلى التساؤل: كيف يُعقل أن النبي ﷺ، الذي أُرسل رحمةً للعالمين، والذي أمره الله ﷻ بأن يقول للناس حُسنًا، والذي جادل الكفار بالتي هي أحسن، أن يفتتح خطابه للمسلمات المؤمنات في يوم العيد بهذه العبارات الثقيلة؟
إن الفطرة السليمة، بل حتى الذوق الإنساني البسيط، يقتضي أن يكون أول ما يُقال في العيد هو التهنئة، وليس الترهيب. ذلك أن كل مناسبة لها منطقها الخاص، وحديث العيد ينبغي أن يكون متناسقًا مع هذا اليوم السعيد، وإلا بدا القول نافرًا عن السياق، غير متوافقٍ مع الذوق السليم والذكاء الاجتماعي. وحاشا لرسول الله ﷺ، الذي كان أكمل الناس خلقًا وأحسنهم أدبًا وألطفهم في التعامل، أن يكون هذا منطقه في يوم فرحٍ وسرور. إن منطق الرحمة والسماحة الذي عُرف به رسول الله ﷺ يجعلنا نتوقف أمام هذه الرواية بتمعّن، ونتساءل عن مدى انسجامها مع أخلاقه وسيرته الشريفة.
ناقصات عقل
ولنتجاوز هذا الكلام الذي قيل في مُناسَبة غير مُناسِبة له، ونأتي إلى التبرير المذكور في الحديث، لقد برر الحديثُ نقصانَ عقل المرأة بأن شهادتها نصف شهادة الرجل استنادًا إلى آية المداينة ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ ولكن العجيب أن ذِكر الشاهدتين من النساء لم يأت في القرآن قط إلا في هذه الآية الخاصة بالمداينة في الأموال والتجارة، فإذا كان عقلُ المرأة ناقصًا فلا يجوز أن تشهد في أيِ شيء، لا في تجارةٍ وأموال، ولا في سرقةٍ، ولا في قتل، ولا في زواجٍ، ولا طلاقٍ، ولا أعراضٍ، ولا في أي حدٍ من الحدود؛ لأن المشكلة في عقلِها بالأساس، ولهذا ستكون شهادةُ المرأة على النصفِ من شهادة الرجل في جميع أمور الحياة.
ولكن الله لم يذكر قط أن شهادةَ المرأة على النصف من شهادة الرجل إلا في هذه الآية الخاصة بالأموال والدين والتجارة، وسنجد، مثلًا، في قضية أعظم شأنًا وخطرًا من الأموال، ألا وهي الزنا، سنجد أن الله حدد الشهود في الزنا أن يكونوا أربعةً، دون أن يذكر الله أن شهادة الأنثى على النصف من شهادة الذكر، ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾ وهنا أمامنا أكثر من خيار:
١- إما أن نعتبر أن كلمة ﴿بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ خاصة بالشهداء الرجال فقط، فلو زنا رجلٌ وامرأةُ وشهد عليهما أربعة نساء، فلا اعتبار لهن، وشهادة النساء الأربعة تساوي لا شيء. ونفس الحكم نطبقه على القتل، فلو قتل أنسانٌ إنسانًا ورأى جريمةَ القتل امرأتان، سنعتبر رؤيتهما لا تساوي شيئًا؛ لأن الرجال فقط هم المقبولون للشهادة في الحدود والقصاص، وسيذهب دمُ القتيل هدرًا لأن الشهود كانوا نساءً ولم يكونوا رجالًا. وقِسْ على ذلك السرقة، فلو سرق إنسانٌ ورأته امرأتان وهو يسرق، وذهبتا إلى المحكمة لتشهد المرأتان بأنهما شاهدتا هذا الشخص يسرق، سيقول لهما القاضي: ارجعن إلى بيوتكن، فالمرأة لا قيمة لشهادتها، ورؤيتكما لا قيمة لها. ولن يُدان هذا السارق؛ لأنكما – كنساء – لا تصلحن للشهادة في الحدود. وهكذا ستضيع دماءُ القتيل الذي شاهد قتلَه النساءُ، وستضيع الأموالُ التي سرقها لصٌ رآه نساء، ولن يُعترف بجرمة الزنا التي شاهدها نساء. وبناءً على هذا الوجه، فلو شهدت نساءُ الدنيا كلها أن فلاًنا قتل أخاه، فلا اعتبار لشهادة نساء الدنيا بأسرهن في الحدود. وبهذا يقول ابن قدامة في المغني: «وإنه لا تُقبل شهادتهن (أي النساء) وإن كثرن، وجمهور الفقهاء على أنه يشترط رجالًا أحرارًا.. وبهذا الذي ذكرنا قال سعيد بن المسيب، والشعبي والنخعي وحماد والزهري وربيعة ومالك والشافعي»20.
إذن، الحالة الأولى كآلاتي، تكون شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل فقط في الأموال والتجارة كما تقول آية المداينة، فالآية تتحدث عن الشهادة في الديون والأموال ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ..﴾ حتى قوله تعالى ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾. ولا تُقبل شهادة المرأة في أي شيء آخر غير الديون كما تقول الآية؛ لأن جميع الآيات الأخرى التي تتحدث عن الزنا أو القتل أو السرقة، لا يصلح أن تكون المرأة فيها شاهدًا أصلاً، لا على النصف من الرجل ولا ربعه، «ولا تقبل شهادتها، ولو كان معها ألف امرأة مثلها» بتعبير ابن قدامة21.
٢- هو أن تُقبل شهادة المرأة في الحدود والقصاص – كالقتل والزنا والسرقة – شريطة أن تكون على النصف من شهادة الرجل كما هي الحال في الديون، بمعنى: أن آية ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ﴾ لن نجعلها خاصةً فقط بالديون والأموال والتجارة، وإنما سنطبقها على أي شيء تشهد فيه المرأة، سواء كانت في الديون كما تحدد الآية، أو كان في غير الديون. وبهذا القول قال عطاء وحماد والشافعي في رواية عنه22. وابن حزم الظاهري23، ووافقه الشيخ محمد الغزالي.24
ولكن هذا القول لا يخلو من إشكال؛ لأننا لو اعتبرنا أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل في كل شيء، حتى في الحدود والقصاص، فهذا سيخل بالآية التي تقول ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً﴾، هنا اشترط الله أربعة شهداء ذكور فقط، ولو طبقنا القول الثاني، واعتبرنا أن المرأة يحق لها أن تشهد في الزنا، وأتينا بثلاثة رجال وامرأتين، فسيكون لدينا في المجمل خمسة شهداء، ولن تقبل شهادة أربعة (ثلاث رجال وامرأة واحدة) بل لا بد أن يكون الحد الأدنى خمسة شهداء، والله لم يقل في الآية أن نأتي بخمسة شهداء في الزنا، وإنما قال ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾. فلا يجوز زيادة الحد الأدنى عن أربع، ولا يجوز التقليل عن أربع. وعليه، فبناءً على هذا القول، فلا يصح اعتبار شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل في الحدود والقصاص والزنا، لأن الحد الادنى لعدد الشهداء سيزيد عن العدد الذي اشترطه الله في الآية.
٣- هو قبول شهادة المرأة واعتبارها مساوية لشهادة الرجل في الأموال والديون، دون الحدود والقصاص. فإن قالوا: كيف يصح أن تتساوى شهادة المرأة بشهادة الرجل في الدين وقد قال الله ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ نقول: إن هذا في حالة الخوف من أن تضل المرأة فقط، أما إذا كانت المرأة ممن يوثق بشهادتها وخبرتها، فيجوز أن يكون رجل واحد، وامرأة واحدة؛ لأن هذا الأمر إنما على سبيل الإرشاد وليس على سبيل الفرض والوجوب، وبهذا يقول ابن كثير، وابن العربي المالكي25، والجصاص26، والقرطبي27، والرازي28، والشافعي29، وابن تيمية30، وابن القيم31، وغيرهم، فجميعهم متفقون على أن الأمر في الآية على الإرشاد لا على الوجوب.
٤- هذا فيما يخص مساواة شهادة المرأة في الديون لشهادة الرجل. أما فيما يخص شهادتها في الحدود والقصاص، فإني لم أستطع الوصول إلى أيِّ قول مِن عالِم قديمٍ أو حديثٍ أجاز أن تكون شهادة المرأة في الحدود مساويةً لشهادة الرجل. وقد أخطأ الدكتور محمد عمارة — رحمه الله ورضي عنه — حين ظن أن الأستاذ الإمام محمد عبده والدكتور محمود شلتوت قد أجازا ذلك32. فقد كان حديثُ الأستاذ الإمام في تفسير المنار عن مساواة شهادة المرأة لشهادة الرجل في الديون والأموال، ولم يتطرق الإمامُ محمد عبده إلى شهادتها في الحدود والقصاص33. كما أن الدكتور شلتوت — رحمه الله — حين ذكر كلامَ ابن القيم وكلامَ الأستاذ الإمام، كان حديثُ ابن القيم كلُّه منصبًا عن الفرق بين الشهادة والإشهاد، وهذا كله كان في الديون والأموال، ونصَّ ابنُ القيم على أن هذا في غير الحدود34. بل ولم يذكر الدكتور شلتوت — رحمه الله — إن شهادة المرأة مساويةً لشهادة الرجل في الحدود والقصاص، وأقصى ما قاله إن شهادتها مساويةٌ للرجل في اللعان، لكنه لم يزد على ذلك قيد أنملة35.
نفس هذا الكلام الذي ذكره الدكتور عمارة، كرره كذلك الدكتور علي جمعة، في رده على «شبهة شهادة المرأة المسلمة»، بدأ بتكرار نفس الكلام، أن هناك حالات تُقبل فيها شهادة المرأة منفردة، كالولادة والرضاع، وأن شهادة المرأة مساوية للرجل في هلال رمضان، وأن المرأة مثلها مثل الرجل في اللعان، ثم ذكر التفرق بين الشهادة والإشهاد، وكرر نفس كلام ابن القيم، وذكر كلام الدكتور شلتوت والإمام محمد عبده. لكنه وبعد هذا كله، لم يقل: هل تُقبل شهادة المرأة في الحدود والقصاص أم لا؟ هل يَقبلُ شهادةَ أربع نساء فقط على جريمة زنا؟ هذا كله لم يَرُدّ عليه الدكتور علي جمعة واكتفى بذكر هلال رمضان والولادة والرضاعة36. وفي فتواه في دار الإفتاء المصرية عن حكم استخدام الوسائل الحديثة في إثبات جريمة الزنا، رفض الدكتور علي جمعة استخدام تلك الوسائل الحديثة مؤكدًا أن جريمة الزنا لا تثبت إلا بأحد أمرين: إما بالاعتراف، أو بشهادة أربعة شهود عدول كما قرر ذلك جمهور العلماء من قبل37.
في سِفره القيّم «تحرير المرأة في عصر الرسالة»، تناول الأستاذ عبد الحليم أبو شقة ذلك الحديث النبوي وعلَّق عليه تعليقًا حسنًا، غير أنَّه بدا في طرحه معتذرًا، متحفظًا في عرضه، محاولًا تضييق دلالة الحديث وحصر معناه. فقد استهلَّ حديثه بالإشارة إلى سياق ورود النص، مرجحًا أنَّ صياغته «ليست تقريرًا لقاعدة عامة أو حكم مطلق»، بل هو كلامٌ «يحمل معنىً من معاني الملاطفة العامة للنساء»38.
وأقول: إنَّ الأستاذ أبو شقة بدا معتذرًا؛ إذ إنه حين بلغ معنى نقصان العقل الوارد في الحديث، وبعد أن أقرَّ بأنَّ عقل المرأة ناقص نوعيًا — سواء كان هذا النقص فطريًا أم عرضيًا — عاد ليقدِّم اعتذاره فورًا، قائلًا: «وأيًا كان مجال النقص، فهو لا يخدش قواها العقلية، ولا يُنقص من قدرتها على تحمُّل مسؤولياتها الأساسية… كما أن النقص النوعي في إحدى القدرات الخاصة قد يقابله زيادة في قدرة أو قدرات أخرى»39.
وحين تعرّض لنقصان الدين، فإنه — وبعد إقراره بأنهنَّ ناقصات دين — لجأ إلى لهجة تلطيفية، فكتب يقول: «إن هذا النقص إنما هو نقصٌ جزئيٌّ، محصورٌ في العبادة، بل في بعض الشعائر فحسب… وهو كذلك نقصٌ مؤقت، لا يدوم طوال حياة المرأة… ثم إنَّه ليس من كسبها أو اختيارها. بل إنَّ المرأة المؤمنة قد تشعر بالأسى لحرمانها من الصلاة والصيام، غير أنَّها ترضى وتصبر على أمر قد كتبه الله عليها».
وهكذا كان نهج الأستاذ أبو شقة في تناول هذا الأمر؛ إذ أقرَّ بنقصان العقل، لكنه جعله نقصًا نوعيًا، وأقرَّ بنقصان الدين، لكنه صوَّره على أنه نقصان جزئي عابر، فلا حزن ولا أسى، فللمرأة ما يعوض ذلك. وعلى هذا النحو، نجده قد خفَّف من حدّة النص، وضيَّق من نطاق دلالته، ولم يفتح باب التأويل على مصراعيه. غير أنَّ هذا النهج كان مفهومًا بالنظر إلى شخصيته؛ إذ لم يكن من أولئك الذين يتسمون بالصدامية أو الجرأة المفرطة، بل كان معتدلًا، متأنّيًا في معالجته لقضايا المرأة، شأنه في ذلك شأن كثير من رواد الحركة الإصلاحية، وإن تفاوتوا في مقدار تحررهم وجرأتهم. فليس الغزالي كأبي شقة والقرضاوي، وهم جميعًا ليسوا كالدكتور محمد عمارة.
وأزعم أنَّ طبيعة شخصية الأستاذ أبو شقة لعبت دورًا جوهريًا في طريقته في التعامل مع النصوص؛ فهو لم يكن كالغزالي الذي يواجه النص بقوة، ولا كان جريئًا كالقرضاوي وعمارة، ولهذا جاء أسلوبه على هذا النحو: يُثبت الحديث، لكنه يُبطل حدَّته، ويُبقيه بلا أنياب. غير أنَّ ما أثار استغرابي أنه انتهى إلى ذات النتيجة التي ذهب إليها الشيخ الغزالي وفقهاء الظاهرية، في أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل في كل شيء، سواء في الحدود والقصاص أو في الزواج والطلاق.
أما وإنّ أحدًا من العلماء المتقدّمين — فيما وقفتُ عليه من البحث والتنقيب — لم يصرّح قطُّ بمساواة شهادة المرأة بشهادة الرجل في جميع الأحوال، فما أحرى بنا اليوم أن ننظر في هذه المسألة بعين الاجتهاد المتبصّر، مستدلّين عليها بالعقل والنقل، بإذن الله! وإن كنّا ننسب هذا الرأي إلى أحدٍ من مفكري المسلمين المعاصرين، فإن أولى الناس به هما الدكتور حسن الترابي40 والدكتور محمد عمارة، وإن كان استدلال الدكتور عمارة بكلام الإمام ابن القيم، والدكتور محمود شلتوت، والإمام محمد عبده لا يخلو من عدم الدقة، إلا أنّ قناعته الشخصية كانت تميل إلى مساواة شهادة المرأة بالرجل في مسائل الحدود والقصاص.
وقد وقفتُ اليوم على رأيٍ آخر للشيخ الدكتور عصام تليمة، إذ أفصح لي صراحةً عن تبنّيه لمذهب مساواة شهادة المرأة بالرجل على إطلاقه، مستندًا في ذلك إلى أن الفيصل في الأمر هو القاضي، الذي يناط به اختيار الشاهد الأكفأ، والأقدر، والأعرف بتفاصيل الواقعة، دونما نظرٍ إلى جنسه، بل إلى مدى قدرته على نقل الحقيقة بأمانةٍ ودقة.
وهذا تلخيص لهذه الآراء كي يفهمها القارئ بشكل أبسط وأوضح:
شهادة المرأة في الديون والأموال | شهادة المرأة في الحدود والقصاص | أصحاب الرأي | |
الرأي الأول | على النصف من الرجل | صفرًا | جمهور الفقهاء، وسعيد بن المسيب، والشعبي، والنخعي، والزهري وربيعة. |
الرأي الثاني | على النصف من الرجل | على النصف من الرجل | عطاء بن أبي رباح، وحماد، وابن حزم، ومحمد الغزالي وأبو شقة. |
الرأي الثالث | مساوية للرجل | صفرًا | ابن تيمية، وابن القيم، وشلتوت، ومحمد عبده. |
الرأي الرابع | مساوية للرجل | مساوية للرجل | د. حسن الترابي، د. محمد عمارة، ود. عصام تليمة، وبه أقول. |
شهادة المرأة في الحدود والقصاص
يمكن للإنسان أن يقول بكل ارتياح وقوةٍ: أن ليس في كتاب الله، ولا في سنة رسوله ﷺ، أي نصٍّ يُقرّ بجعل شهادة المرأة نصف شهادة الرجل في الحدود والقصاص، فضلًا عن منعها من الشهادة فيهما مطلقًا، كما ذهب إلى ذلك أئمة المذاهب الأربعة. إذ لا يستندون في هذا الحكم إلى آية مُحكمة، ولا إلى حديث صحيح، ولا إلى قاعدة عقلية، ولا إلى مبدأ شرعي، ولا إلى أصلٍ لغويٍّ أو منطقيٍّ.
ولا ينبغي للمرأة أن تأسى، أو تظن أنها وحدها مَن حِيل بينها وبين أداء الشهادة في الحدود والقصاص دون مسوِّغٍ شرعي؛ فقد حُرِم من ذلك العبيد والإماء أيضًا. فأين الدليل من كتاب الله الذي يشترط الحرية في الشاهد؟ لا أثر له. وأين الحديث النبوي الذي يوجب أن يكون الشاهد حُرًّا؟ لا وجود له. ثم ما العلاقة بين الحرية والعبودية وبين القدرة على الشهادة على جريمة قتلٍ أو زنا؟ وهل تؤثّر العبودية في بصر الإنسان، فلا يرى كما يرى الأحرار؟ أم تُضعف عقله، فلا يُدرك كما يُدرك غيره؟ فإن كانوا قد منعوا النساء بحجة نقصان عقولهن، فما بال العبيد — وهم من الرجال — يُحرمون من الشهادة، وهم في زعمهم كاملو العقل؟!
وإن مما ينبغي التأكيد عليه — تأكيدًا لا لبس فيه — أن القانون الجنائي المصري قد حسم هذه المسألة منذ زمن، فلم يُفرِّق بين شهادة المرأة وشهادة الرجل، بل سوَّى بينهما في الحدود والقصاص، فلم يعد لهذا الجدل موضعٌ في واقعٍ تجاوز تلك الاجتهادات العتيقة، ونبذها وراء ظهره غير آسفٍ عليها. ومن ثم، فليس المقصود من هذا المقال أن يطالب بتغيير واقعٍ قد تغيَّر بالفعل، وإنما غايته كشف ذلك الانفصام العميق الذي يعانيه العقل الإسلامي، إذ يعيش أسير تناقضٍ صارخ؛ يتحاكم في حياته اليومية إلى قانونٍ عصريٍّ في القرن الحادي والعشرين، غير أن وعيه ما زال غارقًا في اجتهادات الشافعي وأقرانه في القرن الثاني للهجرة! فكيف لعقلٍ يتخبط بين زمانين متباينين أن يُبصر طريقه؟ وكيف لوعيٍ مُثْقَلٍ بأغلال الماضي أن ينهضَ لمجاراة الحاضر؟ إنَّ هذا المقال صيحةٌ في وجه ذلك العقل المُخدَّر، لعلّه يستفيق من غفلته، ويُسقط قيودَه، ويمضي في طريق النور، حيث ينبغي له أن يكون.
قال الشافعيُّ رحمه الله في تفسير قوله تعالى ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ، فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ﴾: «والذين نرضى [من الشهداء] أحرارَنا لا مماليكنا الذين يغلبهم مَن يملكهم على كثيرٍ من أمورهم»41. وما أجمل ما قاله ابن حزم رحمه الله ردًا على إخراج العبيد من الآية وليس فيها دلالة ظاهرية ولا خفية على ذلك، فقال:
«أما قول مجاهد ومن اتبعه: ﴿شهيدين من رجالكم﴾: [أي] من الأحرار، فباطلٌ وزلةٌ عالم، وتخصيصٌ لكلام الله تعالى بلا برهان، وبالضرورة يدري كل ذي حس سليم: أن العبيدَ رجالٌ من رجالنا، وأنَّ الإماءَ نساءٌ من نسائنا، قال تعالى: ﴿نساؤكم حرث لكم﴾ فدخل في ذلك — بلا خلاف — الحرائر والإماء. فظهر فساد هذا القول، وإنما خاطب اللهُ تعالى في أول الآية الذين آمنوا. والعبيد، بلا خلاف منهم، فهم في جملة المخاطبين بالمداينة، والإشهاد والشهادة… وما نعلم لهم في هذه المسألة متعلقًا، لا بقرآن، ولا بسنة، ولا رواية صحيحة، ولا سقيمة، ولا نظر ولا معقول، ولا قياس، إلا بتخاليط في غاية الفساد، وأهذار باردة.. قال تعالى: {ممن ترضون من الشهداء} وقال تعالى: ﴿إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية، جزاؤهم عند ربهم جنات عدن تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدا رضي الله عنهم ورضوا عنه﴾. فلم يختلف مسلمان قط في أن هذا خير يدخل فيه العبيد والإماء كدخول الأحرار والحرائر، وحرامٌ على كل أحدٍ أن لا يرضى عمن أخبر الله تعالى أنه قد رضي عنه، فإذ قد رضي اللهُ عن العبد المؤمن العامل بالصالحات، ففرضٌ علينا أن نرضى عنه، وإذ فُرِضَ علينا أن نرضى عنه، ففَرْضٌ علينا قبول شهادته. وأما من ردها لسيده فإنه قال: قد يجبره سيده على الشهادة له. قلنا: لو كان هذا مانعًا من قبول العبد لسيده لكان مانعًا من قبول أحد من المسلمين للإمام إذا شهد له؛ لأن الإمام أقدر على رعيته من السيد على عبده..42.
أما قبول شهادة الإماء، فالشافعي لا يقبل شهادة الإماء مطلقًا قياسًا على العبيد، كما أنه لا يقبل شهادة امرأة واحدة مطلقًا في أي شيء على الإطلاق، وأقل عدد من النساء المنفردات، دون أن يكون معهن رجل، كي يشهدن في مسألة، هو أربع نساء. فالأَمَةُ لا تصح أن تشهد مُطلقًا عند الشافعي، أولًا لأنها أَمَة، وثانيًا لأنها امرأة. وحتى لو كانت حرة، فأقل عدد للنساء لا بد أن يكون أربعة. قال الشافعي في الأم: «لم يجز — والله تعالى أعلم — إذا أجاز المسلمون شهادة النساء في موضع أن يجوز منهن إلا أربع عدول؛ لأن ذلك معنى حكم الله عز وجل»43.
لكن الشافعي الذي رفض شهادة الإماء، وشهادة المرأة الواحدة في كتابِه، ذكر في نفس الكتاب حديث للرسول الكريم: أخبرنا عبد المجيد بن عبد العزيز عن ابن جريج قال أخبرني ابن أبي مليكة «أن عقبة بن الحارث أخبره أنه نكح أم يحيى بنت أبي أهاب. فقالت أَمَةٌ سوداء: قد أرضعتكما. قال: فجئت إلى النبي ﷺ فذكرت ذلك له. فأعرض، فتنحيتُ. فذكرتُ ذلك له، فقال: «وكيف وقد زعمت أنها أرضعتكما». (قال الشافعي): إعراضه عليه الصلاة والسلام يشبه أن يكون لم ير هذا شهادة تلزمه، وقوله «وكيف وقد زعمت أنها أرضعتكما». يشبه أن يكون كره له أن يقيم معها وقد قيل إنها أخته من الرضاعة وهذا معنى ما قلنا من أن يتركها ورعًا لا حكمًا44.
وهاهنا حين أتت أَمَةٌ تشهد في الرضاع، فاستنكر النبي أن يتزوج هذا الرجل وقد زعمت تلك الأَمَةُ أنها أرضعته وزوجتَه. لكن الشافعي يحمل استنكار النبي على أنه من باب الورع لا من باب الحكم. لكن الشافعي رحمه الله ذكر الحديث كله إلا آخر كلمتين لم يذكرهما، ولا أدري لماذا أهملهما الشافعي! أسقطا منه سهوًا أم عمدًا! فهذا الحديث بنفس هذا الإسناد تمامًا أخرجه عبد الرزاق الصنعاني في مصنفه45 (وهو معاصر للشافعي)، وأخرجه البخاري في صحيحه46، أخرجا نفس الحديث بنفس الإسناد بنفس الألفاظ إلا أنهما زادا في نهايته أن قالا: فنهاه [النبي] عنها. وفي رواية أخرى أخرجها عبد الرزاق، جاء في نهايتها: أن النبي قال له: دعها عنك. إذن النبي لم يُعرض ويكره فقط أن يقيم معها، بل إن النبي أمره أن يترك زوجته. ولا أدري، هل يُطلِّق الرجلُ زوجته، ويترك شريكتَه، ويهدم بيتَه لأجل شهادة امرأة مُنفردة لا تُقبل شهادتها عند الشافعي، بالإضافة إلى كونها أَمَة، ولا تقبل شهادتها أيضًا عنده، أي هذه المرأة لا تُقبل شهادتها ضعفين. أيطلق الرجل زوجته لأجل هذه الشهادة التي لا تساوي جناح بعوضه في مذهب الشافعي؟ أبهذا تهدم البيوت ويفرق بين الأزواج؟
ثم هاهنا أمر آخر، يكمل الشافعي استدلاله بالآية السابقة ويقول: وقول الله تبارك وتعالى ﴿من رجالكم﴾ يدل على أن لا تجوز شهادة الصبيان – والله أعلم – في شيء فإن قال قائل: أجازها ابن الزبير. قيل: فإن ابن عباس ردها. (قال الشافعي) – رحمه الله تعالى -: أخبرنا سفيان عن عمرو بن دينار عن ابن أبي مليكة عن ابن عباس – رضي الله تعالى عنهما – في شهادة الصبيان لا تجوز؛ لأن الله عز وجل قال ﴿ممن ترضون من الشهداء﴾ قال ومعنى الكتاب مع ابن عباس والله تعالى أعلم47.
إذن يحمل الشافعي كلمة ﴿من رجالكم﴾ على أنها تدل على الرجال فقط دون الصبيان، فاعترضوا عليه قائلين: إن شهادة الصبيان قد أجازها صحابيٌ من صحابة رسول الله وهو عبد الله بن الزبير، فردّ الشافعي برأيٍ لصحابيٍ آخر وهو عبد الله بن عباس بأنه لم يقبل شهادة الصبيان، ثم رجّح الشافعيُ رأيَ ابن عباس على رأيِ ابن الزبير لأن ابن عباس عنده العلمُ بتفسير القرآن. وهذا مِن أعجب وأغرب الاستدلالات التي سمعتها في حياتي؛ إذ يلزم من هذا أن نُرجح قولَ ابن عباس في كل مسألة في كتاب الله، وليس هناك ثمة داعٍ لرأي صحابة آخرين، فتنتهي كل المنازعات بذكر رأي ابن عباس فهو مَن عنده علمُ الكتاب.
ثم حتى لو سلّمنا بهذا، فقد ذكرنا آنفًا أن الشافعي لا يقبل شهادة امرأة واحدة في الرضاع ولا بد أن يكن أربع نسوة، إلا أن ابن عباس قد أجاز شهادة امرأة واحدة في الرضاع، فقد أخرج عبد الرزاق في مصنفه بسنده إلى عبد الله بن عباس أنه قال: شهادة المرأة الواحدة جائزة في الرضاع إذا كانت مرضية وتستحلف مع شهادتها48.
وهكذا نجد الشافعي لم يقبل شهادة النساء منفردات إلا إذا كن أربعًا، ودليله أن الله لم يذكر ذلك في القرآن، قال الشافعي: وفي قول الله عز وجل ﴿فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى﴾ دلالة على أن لا تجوز شهادة النساء حيث نجيزهن إلا مع رجل ولا يجوز منهن إلا امرأتان فصاعدا؛ لأن الله عز وجل لم يسم منهن أقل من اثنتين ولم يأمر بهن الله إلا مع رجل.
فإن كان الشافعي قد رفضَ شهادةَ المرأة الواحدة بحُجَّة أنَّ اللهَ لم يذكرها في القرآن، فما باله إذن يرفض شهادةَ العبد، واللهُ قد ذكرَ قبولَ شهادة كلِّ الرجال في القرآن ولم يفرِّق النصُّ بين حرٍ وعبد؟! أليس في ذلك تناقضٌ بَيِّن؟! لقد أضاف الشافعيُ إلى النصوص شروطًا لم يأتِ بها وحيٌ، واستحدث قيودًا لم ينطق بها الشرعُ. وحين جاء الشرعُ بكلامِ النبي وفعلِه ووردت فيه شهادةُ امرأةٍ واحدة، اجتزأه وأسقط منه كلمتين، فبتر معناه، متجاهلًا نهيَ النبي ﷺ عن استمرار ذلك الرجل مع زوجته. وهكذا، زاد في كتابِ الله ما لم يذكره الله، ونقص من حديث رسول الله ﷺ ما قد ذكره الرسولُ وفَعَله، فأي عدلٍ في هذا؟
ونرى الشافعيَّ حينًا يستمسك بقولِ ابن عباس — رضي الله عنه — في رفض شهادة الصبيان، مُحتجًّا بأنه أعلم الصحابة بكتاب الله. لكنه، في ذات اللحظة، يُسقط حجّيَّته حين يُخالف اجتهادَه في مسألةِ شهادة المرأة! فقد أقرَّ ابنُ عباسٍ شهادةَ امرأةٍ واحدة، بينما رفضها الشافعي! فهل قول ابن عباس حجَّةٌ حيث نريد، ثم يُصبح رأيه مهجورًا حيث لا نريد؟ وهل تُبنى الفتاوى على الانتقاء، فتُأخذ الأقوال حين تُلائمنا، وتُهمل وتُنبذ حين تُعارضنا؟ إن كان ابن عباسٍ إمامًا في العلم، فكيف يُستدلُّ به في مسألة الشهادة، ويُلغى قولُه في عين المسألة ذاتها؟ وأي ميزانٍ هذا الذي لا يثبُت على قاعدةٍ راسخة، بل يميل حيث تشاء الآراء!
ولا نقول إلا كما قال أبو العلاء المعري رحمه الله:
تناقضٌ ما لنا إلا السكوت له … ونستجير بمولانا من النار
وإنْ شئتَ، لأسهبتُ في ذكر ما في مذهب الشافعي، بل وفي غيره من المذاهب، من التناقضات الجلية، والعبث في الاستدلال، والتخبط في المنهج، ما يعجز المرء عن إحصائه! وما هذه إلا لمحةٌ يسيرةٌ من فيضٍ غزير. بل إن الشافعي نفسه أقرَّ بتناقض بعض المذاهب الأخرى، فناظرهم، وكشف لهم اضطرابَهم، وبيَّن كيف يقبلون الشيء في موضع، ثم يرفضونه في موضع آخر، مع أن الدليل واحد، والقياس واحد، والحكم واحد، والحجة ذاتها لم تتغير!
بحسب ما اطّلعتُ عليه، فإن أول من قال بعدم جواز شهادة المرأة في الحدود كان القاضي شُرَيح49، ثم تبعه في ذلك ابن شهاب الزهري50، وأحيانًا كان الزهري ينسب هذا القول إلى سعيد بن المسيّب51. لكن القاضي شريح، مهما بلغ من العلم، ليس نبيًّا يوحى إليه، ولا إمامًا معصومًا، وإنما هو مجتهد يُصيب ويُخطئ، واجتهاده لا يُلزم أحدًا، ما لم يكن مستندًا إلى دليلٍ صريحٍ من الكتاب أو السنة أو الإجماع أو القياس الصحيح. فإذا لم يكن في كتاب الله نصٌّ، ولا في حديث رسول الله ﷺ أثرٌ، فكيف يكون لرأي القاضي شريح قوة التحريم أو الوجوب؟! إن مجرد رأيه لا يُعدّ حجةً ملزمةً، تمامًا كما أن آراء الفقهاء والمفسرين والمحدثين ليست حججًا قائمةً بذاتها، إلا إذا استندت إلى وحيٍ من كتاب الله أو سنة رسوله ﷺ.
أما قول ابن شهاب الزهري: «مضت السنة من رسول الله ﷺ والخليفتين من بعده أن لا تجوز شهادة النساء في الحدود»، فهو أول ما يستدعي النظر والتأمل. فالزهري لم يأتِ بآيةٍ من كتاب الله تمنع شهادة النساء، ولم يأتِ بحديثٍ صريحٍ من النبي ﷺ يُحرِّم شهادتهن في الحدود، بل قال ببساطة: «مضت السنة». وهنا يُطرح السؤال:
- إذا كانت «السنة» تعني قولًا أو فعلًا أو تقريرًا من النبي ﷺ، فأين الحديث الصريح قولًا أو تقريرًا الذي يحرِّم شهادة المرأة في الحدود؟
- وأين الفعل أو الواقعة التي شهدت فيها امرأةٌ في قضية في الحدود، فردَّها النبي ﷺ وردّ شهادتها صراحةً؟
الواقع أنه لا يوجد أي حديث نبوي صحيح يمنع شهادة النساء في الحدود، ولا توجد أي حادثة تدل على أن امرأةً شهدت في قضيةٍ فردَّها النبي ﷺ. فلماذا لم يذكر الزهري ذلك الحديث أو تلك الحادثة إن كانا موجودين؟!
بل العجيب أن الزهري لم يجد حتى آيةً في القرآن يُبرهن بها على رأيه، ولو كانت هناك آيةٌ تمنع شهادة النساء في الحدود، لكان أولى به أن يستشهد بها، لكنه لم يفعل! وهذا وحده كافٍ لإثبات أن تحريم شهادة المرأة في الحدود رأيٌ اجتهاديٌّ محض، لا يستند إلى نصٍّ شرعيٍّ قاطع. وأقصى ما يمكن فهمه من كلام الزهري أن شهادة النساء في الحدود لم تقع في زمن النبي ﷺ أو في زمن الخلفاء، ولكن شتّان بين أمرٍ لم يحدث، وأمرٍ مُحرَّمٍ أو مرفوض شرعًا! فهناك فرقٌ جوهريٌّ بين «عدم وقوع الشيء» و«تحريمه». فليس كل أمرٍ لم يحدث في زمن النبي ﷺ يكون مُحرَّمًا! فلم يُنقل عن أي امرأةٍ في عهد النبي ﷺ أنها اخترعت طائرة، فهل يصبح اختراع المرأة للطائرات حرامًا؟! ولم يُعرف في عهد النبي ﷺ أن امرأةً تولّت وزارة النقل العام والمواصلات، فهل يعني ذلك أن تولّيها هذا المنصب الوزاري الآن محرَّم؟!
لكي يُقال إن شهادة المرأة في الحدود لا تجوز، لا بد من دليلٍ شرعيٍّ واضحٍ، كأن يُروى موقفٌ عن النبي ﷺ جاءت فيه امرأةٌ تريد أن تُدلي بشهادتها، فقال لها النبي ﷺ: «ارجعي، فلا شهادة لكِ في الحدود.» لكن هذا لم يحدث قط! ولا توجد حادثةٌ واحدةٌ في كتب الحديث تُثبت هذا القول، فكيف يُقال إن التحريم ثابت؟!
فإن قال قائل: ولكن الله قال ﴿ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ﴾ ولم يقل: ثم لم يأتوا بأربع شاهدات؛ فكلمة شهداء هنا مُذكر وتدل على أن الشاهد لا بد وأن يكون ذكرًا فقط. قلنا: إن التذكير هنا سنعتبره تذكيرًا للتغليب وليس للشرط، فالله يقول: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ وهنا الحديث رمي المحصنات من النساء، ولكن ماذا عن رمي المحصنين من الرجال؟ ماذا لو رمت امرأةٌ رجلاً محصنًا؟ هل سنقول إن الآية قالت ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾، ولم تقل: واللواتي يرمين المحصنين؟ أم أن هذا الحكم يصلح لو رمى رجلٌ امرأةً محصنةً زورًا، أو رمت امرأةٌ رجلاً محصنًا زورًا؟ بل ماذا لو رمت امرأةٌ امرأةً محصنة؟ هل سنقول إن الآية تقول ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ﴾ ولم تقل واللواتي يرمين المحصنات؟ وفي هذه الحال، يكون التذكير والتأنيث ليس شرطًا وإنما على سبيل التغليب فقط، كقوله تعالى ﴿وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾ فإن قال قائل: إن الله قال (ذوي عدل) ولم يقل (ذوات عدل). قلنا: إن كلمة ذوي عدل تشمل الذكر والأنثى، كقوله تعالى ﴿وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى﴾ فهل يمكن أن يكون إعطاء المال لذوي القربى فقط من الرجال، ولا تشمل هذه الآية ذوات القربى من النساء والقريبات؟ فلو أعطى رجلٌ مالاً لعمه نال أجرًا، ولو أعطاه لعمته لم ينل أجرًا؟ لأن الآية تقول (ذوي القربى) ولم تقل (ذوات القربى)؟ وعليه، فتُحمل كلمة (أربعة شهداء) سواء كانوا أربعة رجال، أو أربع نساء، أو اثنين من الرجال أو اثنتين من النساء أو ثلاثة رجال وامرأة، أو ثلاث نساء ورجل.
وأصح دليل على هذا أن شهادة المرأة تساوي شهادة الرجل في الحدود والزنا والسرقة وغيرها، هو قوله تعالى ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ * وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ * وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ * وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ وهنا لم يفرّق القرآنُ بين الزوج والزوجة، فالزوج الذكر عليه أن يشهد أربع شهادات بالله، والزوجة مساوية له تمامًا، وعليها أن تشهد هي أربع شهادات أخرى. فإذا كانت القضية أن المرأة ناقصة عقل، وشهادتها على النصف من شهادة الرجل دائمًا، فكان من المفترض أن يأمر الله الزوج بأن يشهد أربع شهادات، وأن تشهد الزوجة ثمان شهادات بالله. ولكن هذا لم يحدث، واعتبر الله شهادتها مساوية تمامًا لشهادة الرجل.
وخلاصة القول: إنَّ الآية الوحيدة التي ورد فيها أن شهادة المرأة على النصف من شهادة الرجل كانت متعلقة حصرًا بالديون والمعاملات المالية، وقد بيَّنا سابقًا أن هذه الآية جاءت على سبيل الإرشاد لا الإلزام، إذ إنَّ الغاية منها حفظ الحقوق، والناس أحرار في تأمين أموالهم بالطرق التي تضمنها لهم. أمَّا سائر آيات القرآن، فلا نجد فيها آية واحدة تقضي بأن شهادة المرأة نصف شهادة الرجل، بل نجد العكس تمامًا؛ إذ جعل القرآن شهادتها مساوية لشهادته في اللعان، وهو أمرٌ أشد خطرًا وأعظم أثرًا من الأموال والديون.
وهنا يبرز سؤال في غاية الأهمية: إذا كان النقص في عقل المرأة — كما يزعم الحديث — هو العلة في جعل شهادتها على النصف من شهادة الرجل، أفليس من المنطقي أن يكون ذلك حكمًا عامًا في كل الشهادات، لا يفرق بين مجال وآخر؟ فلماذا يجعل القرآن شهادتها على النصف في الديون والمعاملات، ثم يقبلها مساوية للرجل في اللعان، رغم خطورته البالغة؟ وإذا كان عقل المرأة ناقصًا، أفلم يكن الأولى أن تكون شهادتها على النصف في الزنا، بينما تتساوى مع الرجل في المال، لأن المال مسألة أخفُّ وأهونُ من جريمة الزنا، التي تُعد من كبائر الذنوب؟ لكن العجيب أن الأمر جاء على العكس؛ فشهادتها في الزنا مساوية لشهادة الرجل، بينما في الأموال والديون جعلت على النصف!
ومن هنا، يتضح أن القضية لا تتعلق بنقصان عقل المرأة كما قد يُفهم من ظاهر الحديث، ولو كان الأمر كذلك لكانت شهادتها على النصف في كل شيء، غير أن القرآن سوى بينها وبين الرجل في شهادات أخرى. فالعلة ليست في نقصان العقل، بل في نقص خبرة المرأة في مجالات المال والتجارة والتعاملات المالية، خاصة في بيئة الجزيرة العربية آنذاك، حيث لم تكن النساء يمارسن التجارة ولا يملكن خبرة كافية بها، فمن الطبيعي أن يكنَّ أكثر عرضة للخطأ والنسيان في هذا المجال، ولهذا جاء الأمر بأن يكون معها أخرى تُذكِّرها، وليس لأنه لا يُعتمد على شهادتها لذاتها.
ولنضرب على ذلك مثالًا: لو طُلب من طبيبٍ أن يشهد على عقد يبرمه مهندس مدني مع شركة مقاولات لبناء عمارة، فهل سيكون الطبيب مؤهلًا لاستيعاب تفاصيل العقد المتعلقة بمواد البناء والتسليح وأنواع الحديد والخرسانة؟ بالطبع لا، إذ إن هذا المجال ليس من اختصاصه، ولذلك سيكون من المنطقي أن نطلب حضور شخص آخر من ذوي الخبرة ليتأكد من صحة الشهادة. وهذا عين ما تشير إليه الآية؛ إذ إن المرأة في الجاهلية لم تكن تزاول التجارة ولا تملك خبرة كافية بالمعاملات المالية، فجاء الحكم مراعيًا لهذا السياق.
فإن قال قائل: ولكن السيدة خديجة رضي الله عنها كانت تاجرة! قلنا: إن هذا استثناء يؤكد القاعدة ولا ينقضها، فكما يُقال: «الاستثناء يثبت القاعدة». ولو سألنا عن العرب في عصر النبوة: هل كانوا أمة تقرأ وتكتب؟ لكان الجواب أنهم كانوا أميين يعتمدون على الحفظ والرواية لا على الكتابة والتدوين. فهل يصح أن يأتي شخص ليعترض قائلًا: لكن كان في مكة عشرة رجال يقرؤون ويكتبون؟ هل وجود عشرة أشخاص في بلدٍ به آلاف الناس، يُغيِّر من حقيقة أن العرب آنذاك كانوا أميين؟ بالطبع لا.
وكذلك الحال في مسألة التجارة، فإن السؤال هنا ليس عن حالة فردية نادرة، بل عن واقع المجتمع كله؛ فهل كانت نساء العرب عمومًا تاجرات خبيرات بالبيع والشراء والسفر في الأسواق؟ أم أن السيدة خديجة كانت استثناءً بينهن؟ المنطق يقتضي أن نُحكِّم القاعدة لا الاستثناءات، وإلَّا لكان من العبث أن يدَّعي أحدٌ أن مصر متقدمة علميًا بحجة أن الدكتور أحمد زويل — وهو فرد واحد من بين ١٠٠ مليون — قد نال جائزة نوبل!
فهذا هو الفرق بين من يستدل بالاستثناء، ومن يستدل بالقاعدة.
ثانيًا: حتى السيدة خديجة لم تكن تتاجر في مالهِا بنفسِها ولا تسافر مع تجارتها، وإنما كانت تستأجر الرجالَ ليقوموا بهذا العمل، يقول ابن إسحاق في سيرته عن أمنا خديجة -رضي الله عنها-:
وكانت خديجة بنت خويلد امرأة تاجرة، ذات شرف ومال، تستأجر الرجالَ في مالها وتضاربهم إياه بشيءٍ تجعله لهم، فلما بلغها عن رسول الله ما بلغها مِن صدق حديثه وعظيم أمانته وكرم أخلاقه، بعثت إليه فعرضت عليه أن يخرج في مالٍ لها إلى الشام تاجرًا52.
وعليه، فإن حتى هذا الاستثناء الذي يُستدل به، لا ينقض القاعدة، بل لا يصح حتى أن يكون استثناءً؛ إذ لم تكن السيدة خديجة تزاول التجارة مباشرةً، وإنما كانت تستثمر مالها من خلال الرجال. ومن هنا، لا عجب أن تكون النساء – في ذلك المجتمع – أقلَّ درايةً وخبرةً بأمور التجارة والمعاملات المالية، فجاء قوله تعالى: ﴿أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى﴾ في سياق المُداينة، ليعكس واقع الحال لا انتقاصًا لعقل المرأة.
أما القتل والزنا والسرقة، فهي وقائع يشترك في معرفتها الرجال والنساء على السواء، ولهذا كانت شهادة المرأة فيها مساوية لشهادة الرجل. والعكس صحيح، فهناك قضايا لا خبرة للرجال بها، كأمور الرضاعة والولادة والحيض، فتُقبل فيها شهادة المرأة منفردة دون حاجة إلى رجل، لأنهم قليلو الدراية بهذه المسائل. ولو كان معيار الشهادة هو «نقصان العقل»، لوجب القول بأن الرجال ناقصو عقل في هذه المسائل التي تُقبل فيها شهادة المرأة دونهم!
ناقصات دين
أما قولهم «ناقصات دين»، فهو – واللهِ – من أضعف ما يُقال، وأوهى ما يُستدل به! أيكون الامتثال لأمر الله نقصًا؟! وكيف يُعدّ أداء المرأة لما فُرض عليها، على الوجه الذي شرعه الله، نقصانًا في دينها؟!
يزعمون أن المرأة تُوصف بنقصان الدين لأنها، إذا حاضت، امتنعت عن الصلاة والصيام، فأصبحت بذلك «ناقصة»! وهنا مكمن العجب، إذ كيف يأمرها الله ورسوله ﷺ بالكفِّ عن العبادة في أيام الحيض، فإذا أطاعت قيل لها: «دينك ناقص»؟! أيكون الامتثال لنصوص الشرع نقصًا، والمعصية كمالًا؟! أفيكون كمال المرأة – إذن – في أن تخالف أمر ربها، فتُصلي وتصوم حيث نهاها الله عن ذلك؟! فإن كان الأمر كذلك، فلعل العاصي قد بلغ درجة الكمال، والطائع أصابه النقصان والخذلان!
وحين يجدون أن حجتهم هذه لا تصمد أمام العقل، يُحاولون ترقيعها بقولهم: «هي لا تنقص في الأجر، لكنها تنقص في العدد، فالرجل يصوم رمضان ثلاثين يومًا، بينما المرأة لا تصوم المدة ذاتها، فذلك نقصان دينها، أي نقصان في العدد لا في الثواب!» وكأن الدين صار مسألة حسابية، تُقاس بالكميات لا بالامتثال والطاعة!
وبهذا المنطق العجيب، لو أن رجلًا صام في بلدٍ نهاره عشرون ساعة، وآخر صام في بلدٍ لا يتجاوز نهاره عشر ساعات، فهل نقول إن الأول أكمل دينًا من الثاني لأنه صام ساعات أكثر؟! أو لعل صلاة الفجر تُعدّ “ناقصة” لأنها ركعتان، بينما صلاة الظهر “كاملة” لأنها أربع!
ولنأخذ مثالًا يفضح هذا المنطق المختل: لو أن النبي ﷺ قال: «صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته»، فرأى أهل مصر الهلال ليلة التاسع والعشرين، فصاموا ٢٩ يومًا كما أمرهم النبي ﷺ، بينما لم يره أهل الجزائر، فصاموا ثلاثين يومًا، فهل يصح أن يقول أحد: «المصريون ناقصو دين» لأنهم صاموا يومًا أقل؟! أيُصبح المرجع هنا “عدد الأيام”، لا أمر الله الذي جعل لكل بلد رؤيته وحكمه؟! أم أن الجزائريين باتوا فجأة “المعيار الإيماني” الذي تُقاس به عبادة الناس؟!
وعليه، فلا يصح أن نقول إن المرأة ناقصة دين بالنسبة للرجل؛ لأن الرجل ليس مقياسًا ولا معيارًا ولا شأن له بالدين. وإنما المعيار والمقياس والمرجع هو أمر الله. فالرجل كامل دين؛ لأن الله أمره أن يصلي واستجاب له. والمرأة كاملة دين لأن الله أمرها ألا تصلي واستجابت له، ولا علاقة للمرأة بعد ذلك لا بالرجل ولا بالقرد ولا بالجن ولا بالإنس ولا بالديناصورات. فمَن يقارن المرأة بالرجل في الدين، وكأن الرجل هو المقياس والمرجع في دين الله، فهذا أحمق لا يملك مثال ذرة من منطق أو تفكير سليم.
سند الحديث
أما من ناحية السند، فأنا لا أهتم به لا كثيرًا ولا قليلاً؛ لأن «السلسة الذهبية لا تشفع لمتن متهافت» كما قال الشيخ محمد الغزالي، ولكن إجمالاً أحيل الناس على بحث د. نورالدين الجلاصي على موقعه بخصوص هذا الحديث والذي ملخصه الآتي: رُوي الحديث عن طريق خمسة من الصحابة:
- أبي هريرة: عن طريق سهيل بن أبي صالح: وقد ساء حفظه حتى منع ابن معين وأبو حاتم الرازي الاحتجاج بحديثه. وعن طريق عمرو بن أبي عمرو: وقد ضعَّفه مالك، والبخاري، وأبو داود، والنسائي.
- أبي سعيد الخدري: عن طريق زيد بن أسلم: وقال عنه ابن حجر: كان مدلسًا، وذكره ابن حبان في (المجرحون)، وقال عنه ابن عيينه: كان في حفظه شيء.
- ابن عباس: عن طريق زيد بن أسلم أيضًا: وهو مدلس كما ذكرنا.
ورُوي نفس الحديث بثلاثة طرق أخرى عن ابن عباس، كلها تخلو من زيادة ناقصات عقل ودين؛ مما يشكك في هذه الزيادة!
- عبد الله بن عمر: عن طريق يحيى بن عبد الله: وقد ضعّفوه؛ فقال أبو حاتم: يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي: ضعيف، وقال عنه في موضع آخر: ليس بثقة. وعن طريق محمد بن رمح: وهو ثقة.
- عبد الله بن مسعود: عن طريق أحمد بن جعفر بن حمدان القطيعي، وهو صدوق، لكنَّه تغيَّر واختلط فضعف وتُرك حديثه. ورُوي بخمسة طرق مختلفة، صحيحة الإسناد، لكنها تنسب جملة: (ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب على الرجال ذوي العقول منهن) إلى عبد الله بن مسعود نفسه، وليس النبي.
وبذلك نجد ثلاث روايات:
- رواية تخلو من زيادة (ناقصات عقل ودين).
- رواية تنسب هذه الزيادة للنبي.
- رواية تنسب هذه الزيادة لعبد الله بن مسعود.
كيف نجمع بين هذه الروايات الثلاثة؟
يخصص د. نور الدين الجلاصي دراسة عن أسانيد هذه المقولة، فيقول: لا يوجد راوٍ مباشر لزيادة (ناقصات عقل ودين)، ولا لتفاصيل القصة ودقائق أحداثها، فجابر وأبو هريرة وابن عمر وأبو سعيد الخدري، لم يكونوا قريبين منها، ولم يكونوا شهودًا عليها ولا مباشرين لها. وبلال بن رباح الشاهد الرئيس عليها لم تُسند إليه رواية عنها، وابن عباس -الصبي- الذي حضر موعظة النبي للنساء خَلَطَ زيدُ بن أسلم روايته، ورواية عبد الله بن مسعود تختزل كثيرًا من التفاصيل، ولكنها رواية مفصلية في الأحداث؛ لأنها تنسب الجملة إلى عبد الله بن مسعود نفسه وليس النبي. نحتاج إلى إعادة بناء الرواية كي نفهم ما حدث في أكثر تفاصيلها، قال الراوي: شهدتُ الصلاة يوم الفطر مع رسول الله، فبدأ بالصلاة ثم قام متوكّئًا على بلال، فخطب الناس، ثم نزل من على المنبر، فرأى أنه لم يُسمِع النساء، فأتاهن ومعه بلال وابن عباس، وكان صبيًا صغيرًا. وكان في النساء زينب، امرأة عبد الله بن مسعود، فقال النبي: يا معشر النساء، تصدقن فإني رأيتكن أكثر أهل النار، فقامت امرأة من النساء فقالت: وبم يا رسول الله؟ قال: تكثرن اللعن وتكفرن العشير. فجعلن يلقين الخواتيم، ثم انصرف النبي. قالت زينب امرأة عبد الله بن مسعود: كنت في المسجد، فرأيت النبي فقال: تصدقن ولو من حليكن، فرجعت إلى عبد الله بن مسعود فأخبرته بما سمعت من رسول الله، وأخذت حليًا لها، فقال ابن مسعود: أين تذهبين بهذا الحلي؟ قالت: أتقرَّب به إلى الله. فقال: ويلك هلمي فتصدقي به عليَّ وعلى ولدي، فأنا له موضعٌ، فقالت: لا والله حتى أذهب به إلى رسول الله. فانطلقت إلى النبي فقالت: يا نبي الله، إنك أمرت اليوم بالصدقة وكان عندي حُلِيّ لي، فأردت أن أتصدق به، فزعم ابن مسعود أنه وولده أحق به عليهم. فقال النبي: صدق ابن مسعود؛ زوجك وولدك أحق من تصدَّقت به عليهم. فقال ابن مسعود: ما رأيت من ناقصات عقل ودين أذهب للب الرجل الحازم منكن.
وما دام هذا الجزء من الحديث قد ثبتت نسبته إلى الصحابي عبد الله بن مسعود وصحَّت روايته عنه، فإنّه يكون قد أُدرِج في بقية الروايات في كلام النبي، وهو في الأصل ليس من كلامه، وهذا ما يُصطلح عليه في علم الحديث (بالحديث المدرَج)؛ أي ما كان في الحقيقة من غير كلام النبي وأُدخِل في كلامه، إما شرحًا للفظة، أو بيانًا لمسألة، أو سهوًا من الراوي، أو ذكرًا لموقف53.