ما إن بلغ إلى مسامع العالم الإيطالي جاليليو جاليلي (Galileo Galilei) خبرُ اختراع آلةٍ عجيبة تُدعى التلسكوب في منتصف عام ١٦٠٩، حتى استبد به الفضول واستطار شغفُه، فاحتدمت في عقله الرغبة أن يصوغها بيديه، ليُمعن بها النظر في أسرار السماوات. ولم يكن ثمّة جرمٌ أبهى ولا أقرب إلى الخاطر من القمر، فهو درةُ الأفلاك، وثاني أنوار السماء بعد الشمس، يرسل ضياءه رقيقًا غير مُحرق، فلا يخشى الناظر إليه وَهَجًا ولا عَناء. كان القمر مَسرحَ بصره الأول، وبوابة العبور إلى اكتشافاته العظام.
ولما أدار جاليليو تلسكوبه نحو السماء، كأنما انفرجت له أبواب الكون، فبهَرته المشاهد وأسرته العجائب، حتى لم يملك إلا أن يُوثِّق ما رآه بمداد قلمه، خشية أن يضيع من ذاكرته ما كشفه بحدقة عينه. ولم يمضِ عامٌ حتى أخرج إلى العالم كتابه النفيس «الرسالة السماوية (Sidereus Nuncius)» عام ١٦١٠، حيث أودع فيه ما أدهشه وأدهش الدنيا من حوله: رصده الدقيق لسطح القمر، واكتشافه لأقمار المشتري التي تدور حوله كأنها دررٌ في عِقدٍ سماويّ، وسيلٌ من الملاحظات التي بدّلت فهم الإنسان للكون، وجعلت السماء كتابًا مفتوحًا لمن رام قراءته.
تُرى، ماذا وقع عليه بصرُ جاليليو جاليلي حين وجه تلسكوبه لأول مرة إلى القمر؟ يجيبنا في مستهلِّ كُتيِّبه «الرسالة السماوية» قائلًا:
أي شيء أبهى وألذُّ للناظرين من أن يرقبوا القمر؟ ذاك الجرم الذي يبعد عنَّا نحو ستين قطرًا أرضيًّا، ثم ها هو ذا، بفضل التلسكوب، يبدو لنا كأنه لا يتجاوز بُعدين اثنين! يظهر أعظم بثلاثين مرة، حتى ليخاله المرء قريبًا! وما إن يتأمله الناظر مليًّا حتى يدرك، باليقين الذي تهدينا إليه حواسنا، أنَّ القمرَ ليس سطحًا أملسًا مصقولًا كما زُعم، بل هو وعرٌ ذو مرتفعات ومنخفضات، يماثل في تضاريسه سطح الأرض، يزخر بجبال وسهول وتصدعات تمتد على وجهه الفضيّ.1
وبهذا «اليقين الذي تهدينا إليه حواسنا»، رأى جاليليو أنَّ القمرَ ليس ذلك الجرم المثالي الذي تصوَّره القدماءُ، بل هو شبيهٌ بالأرضِ، بتضاريسه الوعرة ومرتفعاته الشامخة. غير أنَّ أهمَ ما أبصره، وما جعل اكتشافه هذا فتحًا عظيمًا، هو رؤيته للجبال. فقد جاءت هذه الرؤية قاصمةً للنظرية الأرسطية التي كانت سائدةً آنذاك، والتي قسَّمت الوجودَ إلى عالمين متناقضين: عالم أرضيٌّ ناقصٌ مشوَّه، مليءٌ بالهضاب والوديان والمرتفعات، وعالمٌ سماويٌّ كاملٌ نقيّ، خالٍ من العيوب، أملسُ السطح، منتظمُ الدوران في أفلاك محكمة لا اعوجاج فيها ولا انحراف.
وبما أن القمر كان يُنسب إلى هذا العالم السماويّ، فقد جرى الاعتقادُ بأنه جرمٌ كاملٌ لا يشوبه تغيير، دائرةٌ صافيةٌ من الضوء، لا جبال فيها ولا وهاد. لكن جاليليو، بنظره الثاقب وعدسته الكاشفة، قد أزاح الستار عن حقيقةٍ لم يكن لها أن تُصدَّق في زمانه، إذ كشف أن القمر ليس أكثر من أرضٍ أخرى، تشاركنا وعورتها، وتُجاري تضاريسها، فكان هذا الكشف إيذانًا بانهيار الأسس التي قامت عليها نظرة القدماء للكون.
القول بأن القمر جسم به جبال وأودية مثل الأرض، يتعارض بشكل مباشر مع النظرية الأرسطية التي يتم تدريسها في المدارس والجامعات، والتي يقوم أساسها على هذا الانفصال القاطع بين العالَم الأرض والسماوي. وكما أشار جاليليو نفسه إلى هذا الأمر بأن اكتشافاته القمرية تعد دليلًا تجريبيًا قاطعًا لدحض النظرية الأرسطية وإثبات بطلانها، فكتب يقول:
ومن خلال المشاهدات المتكررة لـ [البقع على القمر] توصلنا إلى نتيجة مفادها أننا بالتأكيد نرى سطح القمر ليس أملسًا، ولا مستويًا، ولا كرويًا تمامًا، كما تعتقد الغالبية العظمى من الفلاسفة عن طبيعة القمر وغيره من الأجرام السماوية. بل على العكس من ذلك، فهي غير مستوية ووعرة ومليئة بالمنخفضات والارتفاعات. وهو كوجه الأرض تمامًا المكتظ بسلاسل الجبال وأعماق الأودية هنا وهناك.
كانت هذا الرأي الذي «تعتقده الغالبية العظمى من الفلاسفة» الأرسطيين واضعين حدًّا فاصلًا بين العالَم الأرضي والعالَم السماوي قد تم إثبات بطلانه بالتجربة المعتمدة على «اليقين الذي تهدينا إليه حواسنا»، أو هكذا قال جاليليو. لكن إذا ما أردنا أن نُمعن النظرَ في الأمر، هل كانت مشاهدات جاليليو حقًا أدلةً تجريبيةً تدحض النظرةَ الأرسطية؟ هل كان جاليليو مخولًا أن يصلَ إلى هذا الاستنتاج الذي مفاده أن القمر به جبال وهضاب وأودية؟ بل هل كانت مشاهدات جاليليو أدلةً كافيةً تجبر المؤمنين بنظرية أرسطو على تركها والتسليم بعدم صوابها؟ وإذا لم تكن كافية، فهل يستطيع الفلاسفة الأرسطيين أن يبرروا نظريتهم عن كمال القمر والأجرام السماوية بعد مشاهدات جاليليو؟
رسم جاليليو للقمر بخط يده
قد يُخيَّل للناظر بادئ الرأي أن ما كشفه جاليليو جاليلي وسجَّله في «رسالته السماوية» كان كفيلًا بتقويض دعائم الفلسفة الأرسطية، وأنه ضرب بنظريتها في كمال الأجرام السماوية عرضَ الحائط. غير أنَّ الحقيقة أكثر دقةً وتعقيدًا؛ إذ لم تكن تلك المشاهدات، عند تمحيصها بعين النقد، حُجَّةً قاطعةً على زوال التصور الأرسطي، بل أمكن، بذكاء خصومه، تطويعها لتظل في انسجامٍ مع مبادئهم الراسخة.
فأولًا، لم يكن ما رآه جاليليو على سطح القمر بَدَهيَّ اليقين، بل كان تأويلًا بصريًّا يتطلَّب فرضيةً مسبقة، وهي أن للقمر طبيعةً تُشابه طبيعة الأرض، وأن الظلال والتفاوتات التي رصدها ليست إلا جبالًا وسهولًا وتضاريس وعرة. لكن أنصار أرسطو لم يكونوا ليُسلِّموا بهذا الافتراض، إذ رأوا في الأجرام السماوية عالمًا علويًّا مغايرًا للأرض، منزهًا عن العيوب والنقائص. فكيف لهم أن يُسلِّموا بأن القمر، ذاك الجرم الطاهر، يعجُّ بالفوضى نفسها التي تملأ الأرض؟! ومن هنا، كان يسيرًا عليهم أن يردُّوا على جاليليو برفض الأساس الذي بنى عليه استنتاجاته، فينهار ما فوقه من تأويلات.
وثانيًا، لم يكتفِ هؤلاء بدحض رؤية جاليليو، بل سارعوا إلى تقديم تفسيرٍ آخر لما رآه، تفسيرٍ لا يُخلُّ بنظام الكون الذي اعتقدوا كماله. وهكذا، استطاعوا، بعناد الفلاسفة وسحر البيان، أن يُحافظوا على تصورهم عن الأجرام السماوية، مُصِرِّين على أنها أبراجٌ أزليةٌ من النقاء، دوائرُ أبديةُ التناسق، لا تعكِّر صفوها جبالٌ ولا تلال، ولا تنال منها يد الزمن ولا تصاريف الدهر، حتى بعد أن أشهر جاليليو مرآته في وجه السماء، كاشفًا عن سرٍّ لم يكن له أن يُصدَّق في زمانه.
ليست الأهمية الحقيقية لرسالة جاليليو جاليلي كامنةً في أنها قدَّمت أدلةً تجريبيةً قاطعةً تُطيح بالنظرية الأرسطية وتدحضها دحضًا لا جدال فيه، إذ لم يكن في وسع مشاهداته وافتراضاته أن تُسقط نظريةً راسخةً امتدت لقرون، ولا أن تُبدِّل تصوُّر البشرية عن الكون بين عشيةٍ وضحاها. بيد أن الإنجاز الأعظم الذي أحدثته رسالته لم يكن في مجرد تسجيله لما رآه، بل في ما أثارته من تحوُّلٍ فكريٍّ جذريّ؛ فقد دفع الناسَ إلى أن يُوجِّهوا أبصارَهم نحو القمر، لا استجابةً لموروثٍ فلسفيٍّ أو تقليدٍ أعمى، بل بدافعٍ من الفضول العلمي والرغبة في التحقق والتّثَبُّت. لقد جعلهم يرون بأعينهم، لا بأعين السلف، ويختبرون بأنفسهم، لا يقبلون ما يُقال لهم من نظرياتٍ قبول المسلَّمات، بل يمحِّصونها ويعرضونها على التجربة والمشاهدة. وذلك هو التحول الأعظم، وتلك هي الثورة الحقيقية التي غيَّرت مسار الفكر الإنساني، وأرست حجر الأساس للمنهج العلمي الحديث، الذي لا يقبل نظريةً إلا إذا كانت متسقةً مع المشاهدة، ولا يعتمد تفسيرًا إلا إذا كان يُفسِّر الظواهر تفسيرًا أفضل مما سبقه.
إلا أن مشاهدات جاليليو القمرية، وإن كانت مذهلةً في حد ذاتها، لم تكن وحدها كافيةً لتقويض الفلسفة الأرسطية، إذ إنها ليست دليلًا تجريبيًا صارمًا بمفردها. غير أن هذه المشاهدات، حين تؤخذ مع غيرها من الرصد الفلكي والتجارب المتعددة، تتراكم لتُشكِّل أساسًا متينًا يُزعزع الفكرة الأرسطية عن كمال الأجرام السماوية. فقد أعلن جاليليو بثقة أنه «رأى» القمر يعجُّ بجبالٍ وأوديةٍ ومرتفعاتٍ ومنخفضات، لكن عبارته هذه، على ما فيها من يقين، حملت في طياتها قدرًا من المبالغة؛ إذ إنه لم يكن «يرى» الجبال كما تُرى الأجسام رؤيةً مباشرةً واضحة، بل كان يستنتج وجودها استنتاجًا مبنيًا على دراسة الظلال والتفاوت في الإضاءة. وهذه المسألة لم تكن خافيةً عليه، بل أقرَّ بها لاحقًا في خطابٍ بعث به إلى أحد الفلكيين، معترفًا بأن ما رآه لم يكن سوى انعكاساتٍ ضوئيةٍ وظلالًا قادته إلى الاستنتاج، لا إلى المعاينة المباشرة. فكتب جاليليو يقول:
لا أقول فقط إن تجاويف القمر وبروزاته لا تُرى، ولا يمكن رؤيتها من هذه المسافة، ولكن أيضًا لا يمكن رؤيتها حتى إذا كان بينك وبين القمر مسافة 100 ميل؛ لا يمكن أن تُرى جبال القمر تمامًا كما أنه لا يمكن رؤية أي شيء من جبال الأرض وأوديتها من نفس تلك المسافة أو أقل.2
يمضي جاليليو جاليلي في خطابه متسائلًا: «كيف إذن أمكننا القول بأن سطح القمر يزخر بجبالٍ تشبه جبال الأرض؟» لكنه لا يترك السؤال معلقًا دون جواب، بل يجيب بنفسه حتى لا يترك القارئ في حيرة، فيقول: «لا يمكننا أن نعرف ذلك بحواسنا فقط، لكننا نستطيع الوصول إلى هذه النتيجة إذا ما اقترن ما تراه حواسنا بتحليلٍ عقليٍّ دقيق، تدعمه الظواهر التي نشاهدها.» وهكذا، لم يكن جاليليو يدّعي أنه رأى الجبال بعينه المجردة، بل كان يؤكد أن قوله هذا قائمٌ على استنتاجٍ عقليٍّ مستندٍ إلى المشاهدة الحسية، لا على الإدراك البصري المباشر. ومن يقرأ ما كتبه جاليليو يجد أنه يُلحُّ ويؤكد بأكثر من طريقة، وبأمثلة متكررة، على هذا التشابه العميق بين الأرض والقمر. ففي وصفه للبقع البيضاء التي تظهر على سطح القمر، يقول: «إن تلك البقع البيضاء التي يراها الإنسان وسط الظلام الدامس، والمناطق المظلمة على سطح القمر، تبدأ، بعد ساعاتٍ قليلة، في التزايد، ثم تظهر بقعٌ جديدةٌ بالقرب من تلك القديمة، وما إن يمضي الوقت حتى ترتبط تلك البقع وتلتحم جميعها في وحدةٍ متكاملة.» ثم يقدِّم مثالًا من الأرض يُضاهي هذه الظاهرة القمرية، فيقول: «أليست الشمس حين تشرق صباحًا تبدأ بإضاءة قمم الجبال أولًا؟ ثم لا تلبث أن تمتد أشعتها فتُضيء المناطق الواقعة خلف الجبال؟ ثم ما إن تصل الشمس إلى كبد السماء حتى تكون كل المنطقة قد أشرقت بنورها؟»
بهذا التدرج في العرض، يضع جاليليو القارئ أمام مقارنةٍ منطقيةٍ لا فكاك منها؛ فكما أن الشمس تُنير قمم الجبال أولًا على الأرض، ثم تمتد إضاءتها إلى الأودية فالسهول، فكذلك الحال على سطح القمر؛ فالبقع البيضاء التي تتزايد تدريجيًا ليست إلا قممًا جبليةً تُشرق عليها الشمس قبل أن تمتد أشعتها إلى السفوح والوديان المحيطة. وهنا تتجلى طريقة جاليليو في الاستدلال؛ فهو لا يكتفي بأن يعرض ملاحظاته، بل يسعى لترسيخ مبدأ عام، مفاده أن الظواهر التي نشاهدها على القمر لا تختلف عن تلك التي نشاهدها على الأرض، وأن القوانين التي تفسر ظواهر الأرض، هي نفسها التي ينبغي أن نُفسِّر بها ما نراه في السماء. وبذلك، يضرب في صميم الفلسفة الأرسطية التي فرَّقت بين العالم الأرضي والعالم السماوي، إذ يؤكد أن لا انفصال بينهما، وأن الكون خاضعٌ لنظامٍ واحدٍ يسري في الأرض كما يسري في السماء
لكن السؤال الذي يفرض نفسه الآن: إلى أي مدى يمكننا مدُّ نظرية التماثل تلك؟ إذا سلَّمنا بأن حركة ضوء الشمس على سطح القمر تشبه حركته على قمم الجبال في الأرض، وإذا سلَّمنا كنتيجة منطقية بضرورة وجود جبالٍ وأوديةٍ وسهولٍ هناك كما هي موجودةٌ هنا، فهل يحق لنا بعد ذلك أن نقول: بما أن جبال الأرض تتكوَّن من الحديد والمعادن، فلا بد أن تكون جبال القمر من المادة نفسها؟ وكأنني أسمع القارئ يجيب بوضوح: «لا، ليس بالضرورة! فوجود الجبال على الأرض ووجودها على القمر لا يعني أنهما متطابقان في التكوين.» وإن كنت أتفق معك، عزيزي القارئ، في هذا الجواب، إلا أن السؤال يبقى مطروحًا: إلى أي حدٍّ يمكننا تطبيق هذا التشابه؟ هل نُطلقه بلا قيدٍ فنمدُّه إلى أبعد الآفاق؟ أم أن علينا أن نضع له حدودًا ونتوقف عند نقطةٍ معينة؟ وإن كنا سنتوقف، فما هي تلك النقطة؟ وكيف نحددها؟
ولعلنا نجد في التاريخ مثالًا حيًّا على إشكالية هذه النظرية حينما قرأ العالم الألماني جوهانس كيبلر (Johannes Kepler) ما كتبه جاليليو، وكان كيبلر من أشد المتحمسين لنظرية كوبرنيكوس، فغمره الحماس وأخذه الإعجاب بمشاهدات جاليليو واستنتاجاته، حتى إنه كتب إليه رسالةً لم يُخفِ فيها انبهاره الشديد. لقد أقرَّ كيبلر بصحة ما قاله جاليليو، بل آمن به حتى قبل أن يتأكد بنفسه من صحة الظواهر التي وصفها، وذلك لأنه لم يكن يمتلك تلسكوبًا كالذي امتلكه جاليليو. إلا أن كيبلر، بحماسه الفياض، لم يكتفِ بتأييد استنتاجات جاليليو، بل حاول أن يمدَّ مبدأ التماثل إلى آفاقٍ أوسع، ليصل إلى نتيجةٍ أكثر جرأةً وامتدادًا، فكتب إلى جاليليو يقول له:
لطالما تساءلت عن حجم تلك الجبال الوديان والكهوف، لماذا هي كبيرة جدًا بهذا القدر؟ هل الطبيعة هي التي جعلتها بهذا الشكل؟ أم أن هذا عمل أيادٍ متقنة؟ أنا أعتقد بشكل جازم أن هذا قطعًا من بناء كائنات حية تعيش على القمر، ولأنهم أكبر منا حجمًا، فقد بنوا وحفروا وديانًا كبيرة جدًا لتناسب أحجامهم. وبالتالي، نظرًا لأنهم يتمتعون بتلك الأجسام الضخمة جدًا، فإن سكان القمر يقومون أيضًا ببناء مشاريع عملاقة جدًا… أعتقد أن يومهم يعادل 15 يومًا من أيامنا على الأرض، ويتحملون الحرارة التي لا نطيق نحن تحملها… كما أنني أعتقد أن لديهم مدينة يسكنون بها تحت سطح القمر.3
العالم الألماني جوهانبيس كيبلر
يبدو أن كيبلر قد أخذ مبدأ التماثل إلى مدى بعيد جدًا، لكن أليست هذه هي النتيجة المنطقية لهذا المبدأ؟ إذا كان هناك تشابه بين الظواهر على الأرض، والظواهر على القمر، وإذا كان هناك تشابه بين أسبابها على الأرض والقمر، فما الذي يجعل اعتقاد جوهانيس كيبلر خاطئًا، إذ قال إن هناك كائنات حية على القمر، كما أن الأرض بها كائنات حية؟ لماذا يكون فرضنا بأن على القمر جبال لتشابه الظواهر يكون فرضًا صحيحًا ومبررًا؟ لكن إذا فرضنا بأن هناك كائنات حية على القمر كما أن الأرض بها كائنات حية، لماذا يكون فرضنا هذا ليس صحيحًا وليس مبررًا؟
كان على جاليليو أن يجد معيارًا منضبطًا نستطيع به أن نعرف ما هو حد التشابه بين الأرض والقمر؟ أفي الظواهر فقط؟ أم في أسبابها؟ أم في جغرافية كل منهما؟ أم في تركيب مادة كل منهما؟ أم في المناخ؟ أم في القابلية للحياة؟ بصيغة أخرى، في أي شيء تتشابه الأرض والقمر؟ وفي أي شيء يختلفان؟ وكيف نعرف هذا الحد الفاصل؟
كان اقتراح جاليليو أن التشابه بين الأرض والقمر هو في الطبيعة الجغرافية فقط، فشكل الأرض يماثل شكل القمر، وبالتالي فقد رفض التشابه في وجود حياة على كل منهما كما اقترح كيبلر، واكتفى جاليليو بأن وضع حد التشابه في الظواهر والأسباب وشكل تضاريس أو جغرافية كل منهما. لكن أصحاب النظرية الأرسطية لم يقفوا مكتوفي الأيدي، فإذا كان من حق جاليليو أن يرفض التماثل بين الأرض والقمر في وجود الحياة، أليس من حق الأرسطيين أن يرفضوا التماثل بين الأرض والقمر في جغرافية وطبيعة كل منهما؟ ولهذا فقد كتب العالم الإيطالي «جوليو سيزار لاجالا Giulio Cesare la Galla» كتابًا يرد فيه على أفكار جاليليو، قائلًا:
وهل التشابه في الظواهر معناه التشابه في أسبابها؟ النار على الأرض لا تنتج إلا من نار، لكنها كذلك تنتج من الشمس، مع أن الشمس ليست نارًا إلا أنها تتسبب في إيجاد النار. فلدينا ظاهرة واحدة، وهي وجود النار، ولها سببان مختلفان. فحتى لو تشابهت الظواهر على القمر مع الظواهر على الأرض، وكان سبب تلك الظاهرة على الأرض هي الجبال، فليس معناه أنه هو نفسه السبب على القمر، فالتشابه في الظواهر ليس معناه بالضرورة التشابه في أسبابها.
لم يكن أحد يعتقد في هذا التوقيت — بما فيهم جاليليو نفسه — أن الشمس هي نجم من ملتهب من نار، لذلك فقد كانت حجة «جوليو لاجالا» قوية وكان يجب الإتيان بأدلة أخرى ترجح طرفًا على طرف، خاصةً وأن البقع السوداء على القمر كان لها تفسير بالفعل في النظرية الأرسطية؛ إذ أن بقع القمر لا تحتاج تلسكوبًا كي تُرى، بل يمكن رؤيتها بالعين المجردة. والنظرية الأرسطية ظلت مستمرة ما يقرب من ألفي عام، فليست تلك الظاهرة التي يراها الناس كل ليلة حين ينظرون إلى القمر طوال ألفي عام، ليست هذه الظاهرة بشيء جديد ولا عصيّ على التفسير. فقد كانت وجهة النظر الأرسطية أن تلك البقع المظلمة التي نراها على القمر، ترجع في الأصل إلى اختلاف كثافة المواد التي يتكون منها القمر، فالقمر في الأصل جسم مستوٍ، أملس، دائري، منتظم تمامًا، لكن المواد التي يتكوّن منها القمر تختلف درجات كثافتها، وبالتالي تبدو بعضها بيضاء وبعضها سوداء.
لا شك أن المشاهدات التي دوَّنها جاليليو جاليلي لم تكن وحدها كافيةً لإعادة تشكيل النظام الشمسي، ولم تكن كفيلةً بتنحية التصور الأرسطي عن الكون بضربةٍ واحدة. لكن حين اجتمعت مع اكتشافه لأقمار المشتري، ومع قوانين جوهانس كيبلر (Johannes Kepler) التي أعادت صياغة حركة الكواكب، وحين تكلَّلت هذه الاكتشافات بتفسيرٍ فلكيٍّ متينٍ أثبت دقة النظام الجديد، تهاوت النظرة القديمة شيئًا فشيئًا، وانزاحت عن طريق العلم، ليحلَّ محلها النموذج الذي صاغه نيكولاس كوبرنيكوس (Nicolaus Copernicus)، والذي صار حجر الأساس للثورة العلمية التي بُني عليها العلم الحديث بأسره.
أما جاليليو، ذلك الرائد الذي أدار عدسته نحو السماء حين كانت البشرية لا تزال مشدودةً إلى الأرض، فقد انتهى به المطاف سجينًا في داره، بعدما حاكمته الكنيسة وأدانته، فظل تحت الإقامة الجبرية حتى وافته المنية. وفي آخر سنةٍ من حياته، فقد بصره تمامًا، فلم يعد قادرًا على رؤية شيء. يا للمفارقة العجيبة! فقد أُطفئت عيناه، وهما اللتان كانتا أول عينين بشريتين تريان السماء عبر التلسكوب. لقد كان جاليليو، في زمنٍ انحنت فيه الرؤوس نحو الأرض، هو أول إنسانٍ يرفع بصره عاليًا، متحدِّيًا ظلام الجهل، متلمِّسًا بنور عقله دروب الحقيقة، فيما كان العالم بأسره ينظر إلى الأسفل.