ميكانيكا الكم: التضليل العلمي الذي صدقه الجميع

خدعوك فقالوا

ما برحنا نسمع ليلَ نهار أن ميكانيكا الكم علمٌ عصيٌّ على الفهم، وبحرٌ بلا ساحل، كلَّما خُيِّلَ للمرء أنه بلغ قاعه، وجدَ أنه لم يلامس إلا سطحه العابر، وكأنّ أسراره تأبى أن تُدرك، وأبعاده تأبى أن تُستوعب. ولعلّ أعظم شاهد على هذا، ما قاله العالم الأمريكي الشهير ريتشارد فاينمان (Richard P. Feynman)، الحائز على جائزة نوبل في الفيزياء عام ١٩٦٥ نظير إسهاماته في هذا المجال، إذ أعلنها صريحةً لا مداراة فيها، قائلًا:

أُقسِمُ، مطمئنَّ النفس، وقلبي يفيضُ يقينًا، أنه لا يوجد على وجه الأرض من يفهم ميكانيكا الكم.1

ولكن، هل هذه الحال خاصة بميكانيكا الكم وحدها؟ ألا تشتركُ معها سائر العلوم في كونها فضاءً متراميَ الأطراف، كلما توغّل فيه الإنسان، ازداد شعورُه بضآلة ما يحيط به من معرفة؟ إننا إن تأملنا مجالات العلم المختلفة، وجدنا في كلٍّ منها مواضعَ حيرة، وحدودًا للعقل يعجزُ عن تجاوزها، فلم نبلغ بعدُ علمًا مُحيطًا، ولم نظفر بفهمٍ تام. ولعلّي أستحضر هنا موقفًا من أيام دراستي للهندسة، حين استهلَّ أستاذنا الدكتور لوك بيسبي (Luke Bisby) إحدى محاضراته بإيراد عبارة شهيرة ألقاها الدكتور دايكس (A.R. Dykes)، رئيسُ المعهد البريطاني للمهندسين المدنيين، في خطابِ تعيينه، إذ قال واصفًا هذا المجال:

الهندسة الإنشائية هي فن تشكيلِ موادٍ لا نفهمُها تمامًا، في صورٍ وأشكالٍ لا نستطيع تحليلَها بدقّة، لتتحمَّلَ قوىً نعجزُ عن قياسِها بشكل صحيح، وكلُّ ذلك بطريقةٍ تُظهِرُ للناسِ أنَّنا نُتقِنُ ما نفعل، رغمَ جهلِنا بكثيرٍ من تفاصيلِه.2

ولو لم أخشَ الإطالة، لسُقتُ أمثلةً عديدةً مشابهة من سائر فروع العلوم، إذ لا يوجد علمٌ أو تخصّص إلا وما نجهله فيه أضعافُ أضعافِ ما نعلمه، بل إن المساحات المجهولة فيه تمتدُّ أحيانًا إلى آفاقٍ لا ندرك حتى حدودها. ومع ذلك، فإنّ التساؤل الذي يطرح نفسه: إذا كانت هذه حال العلوم جميعها، فلماذا تفرّدت ميكانيكا الكم بهذه السمعة التي جعلت الجهل بها يُضرب به المثل، وكأنها العلم الوحيد الذي استعصى على العقول؟ ولمَ شاع بين الناس أن استيعابها أمرٌ أشبه بالمحال، مع أننا نجهلُ الكثير من النظريات في مختلف التخصصات؟

إنّ الغموض الذي يحيط بميكانيكا الكم لا ينبع من تعقيد معادلاتها الرياضية فحسب، بل من مجموعةٍ من الظواهر العجيبة التي تتحدى حدسنا التقليدي وتُناقض بديهيات الواقع المألوف. ومن بين هذه الظواهر ما يلي:

  1. الخاصية الموجية-الجسيمية «Wave–particle duality»: حيث يمكن للجسيمات الكموميّة أن تتصرف كموجةٍ وجسيمٍ في الوقت ذاته، فالإلكترون، مثلًا، قد يظهر في تجربة ما كجسيم محدد الموقع، وفي تجربة أخرى كموجةٍ ممتدة في الفضاء، مما يُثير تساؤلًا عميقًا حول طبيعة المادة ذاتها.
  2. التراكب الكمّي «Quantum superposition»: لا تقتصر الغرابة على ازدواجية السلوك، بل تمتد إلى الوجود نفسه، إذ يمكن للجسيم الكمومي أن يكون في أكثر من حالة في اللحظة ذاتها، أي أن يكون في موقعين مختلفين في آنٍ واحد، حتى يتم قياسه، فينهار تراكبه إلى حالة واحدة محددة.
  3. مبدأ عدم اليقين لهايزنبرج «Heisenberg uncertainty principle»: تفرض الطبيعة الكموميّة حدودًا على معرفتنا الدقيقة، إذ لا يمكن تحديد موقع الجسيم وسرعته في الوقت نفسه بدقة مطلقة؛ فكلما زادت دقة معرفة إحدى الخاصيتين، زادت نسبة عدم اليقين في قياس الأخرى، وكأن هناك ستارًا يحجب بعض تفاصيل الواقع عنّا.
  4. التشابك الكمّي «Quantum entanglement»: من أعجب الظواهر الكموميّة أن جسيمين مترابطين يمكن أن يظلا متصلين آنِيًّا، بغضّ النظر عن المسافة التي تفصل بينهما؛ فإذا تغيرت حالة أحدهما، استجاب الآخر فورًا، حتى لو كان أحدهما في الأرض والآخر على أطراف الكون، في ظاهرةٍ حيّرت العلماء وجعلت أينشتاين يصفها بأنها «تأثير شبحي عن بعد».
  5. العوالم المتعددة «Many Worlds Interpretation»: هو أحد أكثر التفسيرات جرأةً وإثارةً للجدل في ميكانيكا الكم، إذ يقترح أن كل احتمالٍ ممكن لأي حدث لا يظل مجرد احتمال، بل يتحقق فعليًا، لكن في عوالم متوازية. فبينما تقرأ هذه الكلمات الآن، هناك عالمٌ آخر توقفتَ فيه عن القراءة، وعالمٌ ثالث لم تبدأ فيه القراءةَ أصلًا، وعوالم لا حصر لها يتفرّع فيها الواقع مع كل خيارٍ أو احتمال. وبهذا التصور، لا يُلغى أي احتمال، بل تتشعب الأكوان باستمرار، في نهرٍ من التفرّعات التي لا نهاية لها.

لكن، بعد كل هذه الظواهر العجيبة، أليس لنا أن نعلنها صراحةً، أن ميكانيكا الكم هي اللغز الأعظم، والباب الذي يفتح على عوالم لا تدركها العقول؟ أليس لنا أن نقول إنها تتجاوز في غرابتها كل ما عرفناه في الهندسة والرياضيات والفيزياء وسائر العلوم؟

الحق أن هذا الظنّ أبعد ما يكون عن الحقيقة. فميكانيكا الكم لم تقل شيئًا من ذلك، ولم تُصرّح يومًا بهذه التأويلات التي نرددها بدهشةٍ وانبهار، بل هي بريئةٌ منها براءةَ الماء النقي من أوهام السراب. فكل ما سبق وقيل عن موجاتٍ وجسيماتٍ متراكبة، وأكوانٍ متعددة تتشعب مع كل احتمال، ليس سوى اجتهاداتٍ بشريةٍ نُسجت حول معادلاتٍ رياضيةٍ صامتة، لم تُخبرنا عن حقيقة الكون بقدر ما منحتنا أداةً للتنبؤ بما قد يقع في تجربةٍ ما.

وهنا يكمن الفارق الجوهري: التجربة العلمية تمنحنا بيانات وأرقامًا، أما الاستنتاجات التي نستخلصها منها، فهي انعكاسٌ لفهمنا وتأويلنا. فميكانيكا الكم لا تخبرنا بحقيقة الواقع، ولا تقدم وصفًا لماهية الكون، بل تقتصر على إخبارنا بما قد يحدث عند إجراء تجربة معينة، دون أن تفرض تفسيرًا محددًا لما يعنيه ذلك. وكل ما قيل عنها من صورٍ مثيرة وفرضياتٍ غريبة، ليس سوى أبنيةٍ من خيال، وتفسيراتٍ صنعها البشر لتقريب ما استعصى على الإدراك والفهم، لكنها ليست النظرية ذاتها، ولا تعبر عنها بقدر ما تعبر عن عجزنا عن فهم ما وراء أرقامها الصامتة.

******

النظريات العلمية والواقع

ولكن السؤال الذي يطرح نفسَه: ما المشكلة في هذا الكلام السابق؟
المشكلة الحقيقية أن كل ما قِيل سلفًا لا تقوله ميكانيكا الكم، بل هي تفسيرات تم وضعها وبناؤها فوق كَتِف النظرية، بعضها ليست التفسيرات الأفضل، بل منها ما هو مُضلل تمامًا.

ولكن سيظل التساؤل قائمًا، وما المشكلة في تفسير نظرية ما؟

والحقيقة أنه لا يوجد أيّ مشكلة، بل عادةً ما تأتي النظريات العلمية مصحوبةً بتفسيرات لها؛ فنظرية التطور – على سبيل المثال – تقول باختصار: كل الكائنات الحيّة لها أصل مشترك، وأنَّ التغير الموجود بها الآن يرجع إلى شيئين، (1) الطفرات العشوائية التي تحدث للكائن الحيّ. (2) الانتخاب الطبيعي الذي يعمل على فرز هذه الطفرات ليُبقي منها الأفضل والأنسب للكائن الحي.3

هذا ما تقوله نظرية التطور عن الواقع باختصار، وهو نفس ما تقوله الميكانيكا الكلاسيكية، فقانون نيوتن الأول يصف الواقع بشكلٍ بسيط وواضح، وهو أن الأجسام تظل في حالتها من السكون أو الحركة ما لم تؤثر عليها قوة تغير من حالتها. فالأمر بسيط جدًا، وهو أن لدينا أجسام نعرف ما هي، ولدينا حركة في الواقع، ولدينا قوة نعرف ما هي. وفي النهاية ابتكر نيوتن قانونه لوصف هذا الواقع وصفًا دقيقًا.4

ولكن حين يأتي الأمر كي نسأل نفس السؤال عن ميكانيكا الكم، وهو كيف تصف ميكانيكا الكم الواقع الحقيقي؟ فهذا سؤال ليس له إجابة حتى الآن. كل ما لدينا هي معادلات تعمل، وأرقام تُنْتَج، وتجارب تحدث، أما سؤال: كيف تصف هذه المعادلات الواقع الحقيقي؟ أو ماذا تقول هذه التجارب عن العالم الحقيقي؟ فميكانيكا الكم لا تجيب.

لا يظننَّ ظانٌّ، ولا يتوهَّمنَّ متوهِّم، أنّ هذا الأمر منحصرٌ في نطاق ميكانيكا الكم وحدها، بل هو مسألةٌ ضاربةٌ بجذورها في صميم نظرة الإنسان إلى المعرفة برمّتها، وإلى المنهج العلمي في جوهره وأصالته. فهو ليس مجرد إشكالٍ في علمٍ مخصوص، بل هو تساؤلٌ يطرق أبواب الفلسفة والمنطق، ويستلزم تأملًا عميقًا في طبيعة العلاقة بين العلم والواقع.

فهل العلمُ، بما يقدّمه من نظرياتٍ ومعادلاتٍ ونتائج، يصف الواقعَ كما هو في ذاته، فيكون كمرآةٍ صقيلةٍ تعكس صورتَه بجلاءٍ ووضوح؟ أم أنّه ليس سوى أداةٍ فعّالة تُعيننا على التحكّم في الظواهر، والتنبؤ بالمستقبل، والسير في دروب هذا الكون، دون أن يقتضي ذلك مطابقةً حقيقيةً لماهية الواقع ذاته؟ وإن كان العلمُ يصف الواقع، فإلى أي مدىً يبلغ هذا الوصفُ؟ أهو وصفٌ دقيقٌ كاملٌ، لا خلل فيه ولا نقص، أم أنّه تقريبٌ يكتنفه القصور؟ وإن كان فيه قصورٌ، ففي أي موضع يكمن؟ أفي جوهر الواقع وحقيقته الباطنة؟ أم في طبيعة العلاقات التي تصل بين أجزائه وتحيط بمكوناته؟

وهل هذا النقصُ مردُّه إلى قصور العقل البشري، الذي خُلِق بحدودٍ لا يستطيع تجاوزها مهما ارتقى في معارفه واستقصى في بحوثه؟ أم أنّ طبيعة الكون ذاته ذات طابعٍ ملغزٍ متمنّع، لا يبوح بأسراره كاملةً، ولا يسمح لعقول البشر أن تحيط به إحاطةً مطلقةً، فيظلّ دائمًا خارج مدى الإدراك التام؟

لقد سلك العلماء والفلاسفة في الإجابة عن هذا السؤال مذاهب شتى، كلٌّ ينظر إليه من زاويته الخاصة، وفقًا لرؤيته لطبيعة المعرفة وحدود الإدراك البشري. ويمكن تلخيص أبرز هذه الاتجاهات مكتفيًا بعرضها بإيجازٍ يذكّر القارئ الكريم بجوهرها فيما يلي:

  1.  الواقعية العلمية (Scientific Realism):  تذهب هذه الرؤية إلى أنّ النظريات العلمية تصف الواقع كما هو، وأن نجاحها ليس مجرد مصادفةٍ رياضية أو عملية، بل هو دليلٌ على أنّها تكشف عن طبيعة الكون الموضوعي. فكلما ازدادت النظرية نجاحًا في التفسير والتنبؤ، ازداد يقيننا بأنها تعبّر عن حقيقةٍ كامنةٍ في العالم الخارجي.
  2. الواقعية البنيوية (Structural Realism): ترى هذه النظرية أن ما يبقى ثابتًا عبر تاريخ العلم ليس الكيانات الفيزيائية نفسها، بل البنية الرياضية التي تحكم العلاقات بينها. فالعلم لا يخبرنا بحقيقة الأشياء في ذاتها، بل بالكيفية التي ترتبط بها العناصر المختلفة داخل بنيةٍ رياضيةٍ مجردة، مما يجعل الرياضيات هي الجوهر الحقيقي للواقع.
  3.  الواقعية التمثيلية (Representational Realism): تتبنّى هذه الرؤية موقفًا مستوحًى من كانط، حيث ترى أنّ ما ندركه علميًا ليس الواقع كما هو في ذاته، بل تمثيلٌ له وفق أدواتنا الإدراكية. فالعقل البشري لا يدرك العالم مباشرةً، بل يعيد تشكيله وفق مفاهيمه الخاصة، وبالتالي فإن الصورة التي يقدّمها العلم ليست صورةً موضوعيةً بقدر ما هي انعكاسٌ لكيفية إدراكنا.
  4. الأداتية (Instrumentalism): على خلاف الواقعية، ترى الأداتية أنّ النظريات العلمية ليست أكثر من أدواتٍ عمليةٍ وناجحةٍ للتنبؤ بالظواهر، لكنها لا تحمل أي التزامٍ بتمثيل الحقيقة كما هي. فالعلم، وفقًا لهذا التصور، ليس معنيًّا بإخبارنا عمّا هو موجود حقًا، بل فقط بتمكيننا من التعامل مع الظواهر الطبيعية بكفاءة.
  5. إشكالية الاستقراء عند هيوم (Hume’s Problem of Induction): يثير الفيلسوف ديفيد هيوم مشكلةً جوهريةً في المعرفة العلمية، وهي أن العلم يعتمد على الاستقراء، أي تعميم المشاهدات الماضية على المستقبل، دون وجود ضرورةٍ منطقيةٍ تضمن استمرار القوانين الطبيعية على حالها. فحتى لو رأينا الشمس تشرق كل يوم، لا يوجد برهانٌ عقليٌّ قطعيٌّ يؤكد أنها ستشرق غدًا، مما يضع المعرفة العلمية في مأزقٍ فلسفيٍّ عميق.
  6. الواقعية المضادة (Anti-Realism): تنكر هذه الفلسفة وجود حقيقةٍ مستقلةٍ عن ملاحظاتنا، وترى أنّ ما نعتبره «واقعًا» ليس سوى ما يمكن إثباته تجريبيًا. فالحقيقة ليست مطلقةً، بل نسبيةٌ ومشروطةٌ بحدود أدواتنا المعرفية، بحيث لا يمكننا الحديث عن واقعٍ مستقلٍّ عن وعينا وإدراكنا.
  7. البنائية الاجتماعية (Social Constructivism): تذهب هذه المدرسة إلى أنّ العلم ليس انعكاسًا مباشرًا لواقعٍ موضوعيٍّ، بل هو بناءٌ اجتماعيٌّ تشكّل عبر الثقافة واللغة والتوجهات الفكرية السائدة في كل عصر. فالمفاهيم العلمية ليست مكتشفاتٍ محضةً، بل هي نِتاجٌ لعملياتٍ فكريةٍ واجتماعيةٍ تتغيّر بتغير الظروف التاريخية.
  8. مبدأ التكذيب عند بوبر (Falsifiability): يرى كارل بوبر أنّ العلم لا يتقدّم نحو الحقيقة عبر تراكم المعارف، بل عبر استبعاد الفرضيات الخاطئة. فالنظرية العلمية لا تُعد علميةً إلا إذا أمكن دحضها تجريبيًا. وكلما زادت قدرتنا على اختبار النظريات ونفيها، أصبح العلم أكثر صلابةً ومنهجيةً في الاقتراب من فهم الواقع.

ولعلّ أحدًا يضيق ذرعًا بهذا الحديث، متسائلًا: وما علاقة ميكانيكا الكم، وهي فرعٌ من فروع الفيزياء، بتلك النظريات الفلسفية؟ وما شأن الفيزيائيين بأمثال كارل بوبر وإيمانويل كانط وديفيد هيوم؟ أليس الفيزيائي عالمًا بالتجربة والمعادلات، لا بالفلسفة والتأملات؟

وأقول: بل لا يمكن لإنسانٍ، أيًّا كان تخصّصه، أن يفهم مجالَه فهمًا عميقًا دون تلك النظرة الفلسفية الشاملة، وإلا فإن معرفته ستظل سطحيةً، قاصرةً على القشور، يحسب نفسه قد بلغ الغاية، وهو لم يبرح بعدُ البدايةَ. وهذا هو «الجهل المركب»، أن يجهل الإنسان حقيقةَ الأمر وهو يحسب أنه قد أحاط به علمًا. وما أسوأ الجاهل الذي يتوهّم أنه عالمٌ، إذ لا أمل في تصويبه وتعليمه، لأنه لا يرى في نفسه حاجةً إلى التعلم.

ولكي يتّضح مدى ارتباط ميكانيكا الكم بالفلسفة، يكفي أن ننظر إلى تفسيرات علماء الفيزياء لنظريات الكم، سنجدهم، في لحظات الحسم، وقد تجاوزوا حدود المعادلات والتجربة، متقمصين دور الفلاسفة، يقدّمون تأويلاتٍ تتجاوز الأرقام إلى معنى الوجود ذاته. وسأعرض هنا بعضًا من هذه التفسيرات التي طرحها الفيزيائيون، ليقارنها القارئ بما سلف من مدارس فلسفية، ويرى بعينه كيف أن كل تفسيرٍ كموميٍّ إنما هو امتدادٌ لرؤيةٍ فلسفيةٍ كبرى، شاء أصحابه أم أبوا.

وقد اختلف العلماء حول تلك الإجابة اختلافًا كبيرًا، منهم من قال:

  1. أن ميكانيكا الكم لا تعبر عن حقيقةٍ فيزيائيةٍ مطلقة، بل هي مجرد أداةٍ لحساب نتائج القياسات. وفقًا لهذا التفسير، لا يمكن الحديث عن حالة الجسيم قبل القياس، لأنه لا يوجد في حالة محددة أصلًا، بل يكون في حالةٍ غير مُعرّفة (التراكب الكمّي)، ولا يتحدد إلا عند إجراء القياس، فيما يُعرف بانهيار دالة الموجة. ويرجع هذا التفسير إلى الفيزيائي الدنماركي نيلز بور (Niels Bohr) والفيزيائي الألماني فيرنر هايزنبرج (Werner Heisenberg). ويعرف هذا التفسير باسم تفسير كوبنهاجن (Copenhagen Interpretation).5
  2. تذهب هذه التفسيرات إلى أن انهيار دالة الموجة ليس مجرد نتيجةٍ للقياس كما تقول مدرسة كوبنهاجن، بل هو ظاهرةٌ فيزيائيةٌ حقيقية تحدث ذاتيًا عندما يصل الجسيم إلى مستوى معين من التعقيد. ومن أشهر النماذج في هذا الاتجاه تفسير عالم الفيزياء والرياضيات الإنجليزي رودجر بنروز (Roger Penrose) الذي يرى أن الجاذبية تلعب دورًا في انهيار الدالة الموجية. وهو ما يسمى بتفسير الاختزال العياني (Objective Collapse Theories).

  3. يرفض هذا التفسير فكرة احتمالٍ انهيار الدالة الموجية، وبالتالي تذهب جميع الاحتمالات الرياضية ويبقى ما يتم رصده فقط، بل يقترح هذا التفسير بأن جميع باقي الاحتمالات الأخرى تتحق في كونٍ موازٍ. أي أن الكون ينقسم باستمرار مع كل عملية قياس، مما يعني أن كل الاحتمالات الممكنة تحدث، لكن في عوالم مختلفة لا تتداخل. ومن المدافعين عن هذه النظرة الفيزيائي الأمريكي هيو إيفريت (Hugh Everett)، ويعرف هذا التفسير باسم تفسير العوالم المتعددة (Many Worlds Interpretation).
  4. يقترح هذا التفسير أن دالة الموجة لا تنهار إلا عندما يتم رصدها من قِبل عقلٍ واعٍ، أي أن الوعي نفسه يلعب دورًا أساسيًا في تحديد الواقع الفيزيائي. ومن أشهر المدافعين عن هذا التفسير الفيزيائي المجري يوجين فيغنر (Eugene Wigner)، الذي ذهب إلى أن ميكانيكا الكم قد تشير إلى أن الوعي ليس مجرد ظاهرة بيولوجية، بل قد يكون جزءًا من بنية الكون العميقة. وهو ما يسمى بتفسير العقول الواعية (Consciousness Causes Collapse).
  5. أما تفسير العلاقات الكمّية (Relational Quantum Mechanics) الذي قدّمه الفيزيائي الإيطالي كارلو روفيلي (Carlo Rovelli)، فيقترح أن الواقع ليس مطلقًا، بل نسبيٌّ لكل ملاحظٍ على حدة، فالجسيمات ليس لها خصائص ثابتة بحد ذاتها، وإنما تكتسب صفاتها عند تفاعلها مع ملاحظٍ معين. أي أن كل مراقب يرى حقيقة مختلفة، ولا توجد «حالة مطلقة» للأشياء في الكون.

  6. والتفسير المضاد لهذا هو تفسير قدّمه الفيزيائي الأمريكي ديفيد بووم (David Bohm)، وهو محاولةٌ لإنقاذ فكرة الحتمية في ميكانيكا الكم. يرى هذا التفسير أن الجسيمات لها مواقع ومسارات محددة، لكننا لا نستطيع رصدها بسبب وجود «متغيرات خفية» تحكم سلوكها، مما يجعل نتائج الكم تبدو لنا غير حتمية، بينما هي في حقيقتها منضبطةٌ بقوانين دقيقة لا ندركها بعد.
  7. في مواجهة الجدل الفلسفي العميق حول معنى ميكانيكا الكم، ظهر اتجاهٌ متمردٌ يرفض الخوض في أي تفسير ميتافيزيقي، ويطالب الفيزيائيين بالاكتفاء بالرياضيات والتجارب دون البحث في معنى الواقع. هذا الاتجاه يُعرف بتفسير «اصمت واحسب!» (Shut Up and Calculate!)، وهو موقفٌ اشتهر بربطه بالفيزيائي ديفيد ميرمين (David Mermin)، لكنه يعكس أيضًا رؤية العديد من العلماء، مثل ريتشارد فاينمان، الذين رأوا أن البحث في «ماذا تعنيه ميكانيكا الكم؟» سؤالٌ غير ضروري، ما دامت المعادلات تُعطي نتائج دقيقةً وتجريبيةً قابلةً للاختبار.6
    يتجنب هذا النهج أيَّ نقاش حول وجود الجسيم قبل القياس، أو انهيار دالة الموجة، أو حتى طبيعة الواقع ذاته. فبدلًا من محاولة الإجابة عن «ما الذي يحدث حقًا؟»، يركز على «ما الذي سنرصده إذا أجرينا تجربةً ما؟». ورغم بساطته الظاهرة، فإن هذا الموقف يحمل مفارقةً عميقة، إذ إنه في حد ذاته موقفٌ فلسفي، حتى لو أنكر ذلك! فرفض البحث في معنى ميكانيكا الكم هو تبنٍّ لفكرة أن التفسير غير مهم، وهي رؤيةٌ ميتافيزيقية بحد ذاتها. فحتى من يحاول الهروب من الفلسفة، يجد نفسه، دون أن يدري، قد دخلها من بابٍ آخر!

لن أُطيل أكثر من ذلك، ولكن لو اقتصرنا فقط على ذكر أسماء التفسيرات التي انبثقت من ذات الأسس والتجارب في ميكانيكا الكم، لوجدنا أنفسنا أمام عددٍ مهولٍ يكاد يتعذر إحصاؤه. فالتفسيرات المطروحة اليوم أكثر من أن تُحصى، وسأكتفي بذكر ثمانين تفسيرًا، مع مصادرها، ليُدرك القارئ أن الإحاطة بها جميعًا قراءةً فقط أمرٌ عسير.

وأعلم أن القارئ، على الأرجح، لن يخوض في تفاصيلها، بل سيمرّ عليها مرور الكرام، لكن حتى هذا المرور السريع ليس بالهيّن، بل هو كافٍ ليُدرك مدى اتساع هذا الحقل وتعقيده. فإذا كان مجرد الاطلاع على الأسماء أمرًا شاقًا، فكيف بمعرفة محتواها وفهم أصولها؟ بل كيف بمن يزعم أنه امتلك الحقيقة القاطعة، وأن تفسيره وحده هو ما تقوله ميكانيكا الكم، وكأنها لم تُنتج إلا رؤيته وحدها!؟

No. التفسير
1 Copenhagen Interpretation7
2 Many-Worlds Interpretation (MWI)8
3 De Broglie-Bohm Theory (Pilot-Wave Theory)9
4 Objective Collapse Theories10
5 Transactional Interpretation11
6 Consistent Histories Interpretation12
7 Relational Quantum Mechanics (RQM)13
8 Quantum Bayesianism (QBism)14
9 Ensemble Interpretation15
10 Many-Minds Interpretation16
11 Superdeterminism17
12 Stochastic Mechanics (Nelson’s Interpretation)18
13 Time-Symmetric Interpretations19
14 Retrocausal Interpretations20
15 Quantum Darwinism21
16 Veiled Reality Interpretation22
17 It from Bit Interpretation23
18 Participatory Anthropic Principle (PAP)24
19 Thermodynamic Interpretation25
20 Two-State Vector Formalism26
21 Information-Theoretic Interpretations27
22 Quantum Logic Interpretation28
23 Montevideo Interpretation29
24 Modal Interpretations30
25 Perspectival Interpretation31
26 Hidden-Variable Theories32
27 Pancomputationalism Interpretation33
28 Digital Physics Interpretation34
29 Algebraic Quantum Field Theory Interpretation35
30 Path Integral Interpretation (Sum-Over-Histories)36
31 Black Hole Complementarity Interpretation37
32 Holographic Principle Interpretation38
33 S-Matrix Interpretation39
34 EPR Paradox and Realist Interpretations40
35 Wheeler-Feynman Absorber Theory41
36 Holographic Quantum Mechanics42
37 Category-Theoretic Quantum Mechanics43
38 Topos Quantum Mechanics44
39 Sheaf-Theoretic Quantum Mechanics45
40 Geometric Quantum Mechanics46
41 Noncommutative Geometry Interpretation47
42 Self-Measurement Interpretation48
43 Ontological Models Framework49
44 Variational Quantum Mechanics Interpretation50
45 Subquantum Kinetics51
46 Wavefunction Realism52
47 Heisenberg Matrix Mechanics Interpretation53
48 Landauer’s Principle and Quantum Information Theory54
49 Emergent Quantum Mechanics (Quantum Gravity Inspired)55
50 Consciousness-Causes-Collapse Interpretation56
51 Parallel Lives Interpretation57
52 E8 Lattice Interpretation58
53 Surprise-Index Interpretation59
54 Exotic Probability Theory Interpretations60
55 Cellular Automaton Interpretation61
56 Nonlinear Quantum Mechanics Interpretations62
57 Quantum Contextuality Interpretation63
58 Quantum Event Theory64
59 Topological Quantum Field Theory Interpretation65
60 Physical Minimalism Interpretation66
61 Energy-Based Collapse Interpretations67
62 Hamiltonian-Constraint Quantum68
63 Quantum Causal Set Theory69
64 Quantum Set Theory Interpretations70
65 Geometrogenesis Interpretation71
66 Quantum Indeterminism Interpretation72
67 Objective Quantum Probabilities Interpretation73
68 Fourth-Way Quantum Interpretation74
69 Structural Realism Interpretation75
70 Anti-Realist Interpretations of Quantum Mechanics76
71 Bayesian Causal Network Quantum Interpretation77
72 Neo-Bohmian Mechanics78
73 Lattice-Theoretic Quantum Mechanics79
74 Quantum Computational Universe Interpretation80
75 Realist Wavefunction Ontology Interpretations81
76 Pregeometric Quantum Mechanics82
77 Information-Conserved Quantum Mechanics83
78 Quantum Statistical Interpretation84
79 Finite Qubit Universe Interpretation85
80 Holographic Quantum Gravity Interpretations86

كل هذه التفسيرات المختلفة تعتمد على نفس المعادلات، بل على نفس التجارب، ولكنهم اختلفوا اختلافًا كبيرًا في كيفية وصف هذه المعادلات للواقع، ولكن لماذا اختلف العلماء على أكثر من ثمانين تفسيرًا، إذا كانت المعادلات واحدة والتجارب واحدة؟

ولكي نجيب عن هذا السؤال: دعنا نفكر كما فكّر العلماء، ونسير معهم خطوة بخطوة لنعلم كيف أجابوا، وكيف توصلوا إلى وجهة نظرهم في هذا الموضوع.

******

تجربة الشق المزدوج – Double-slit experiment

عام 1801، أجرى العالم البريطاني توماس يونج (Thomas Young) تجربةً على الضوء، مرر الضوء خلال شقين ليظهر على حائل في الخلف، فظهر الضوء متداخلًا على الحائل الخلفيّ، وخاصية التداخل هو من خواص الموجات، فساد الاعتقاد بأن الضوء يتكون من موجات وليس جسيمات.87

يبدو الأمر جيدًا حتى الآن، وهو ما كنا نتوقعه، ولكن ماذا لو أجرينا هذه التجربة وبدلًا من استخدامنا للضوء سنمرر خلال هذين الشقين مجموعة من الذرات. فإذا مررنا مجموعة من الذرات، والذرات هي أجسام كما نعلم، فالجميع سيتوقع رؤية هذا الشكل.

ولكن للأسف، لن ترى على الحائط هذين الخطين من الذرات، وإنما سترى نفس ما رأيته فيما يخص الضوء وطبيعته الموجية، سترى الشكل التالي:

وكأن الذرات تتصف بنفس صفات الموجات! ولكن لا يمكن أن يكون هذا صحيحًا إذ كيف تكون الأجسام موجات!
لذلك، دعنا نجري التجربة للمرة الثالثة، ونراقب الذرات لنرى كيف ظهرت على الحائط بهذا الشكل، سنضع كاميرا أو جهاز رصد ليراقب حركة الذرات لنرى ماذا يحدث تحديدًا.

العجيب إننا حين نضع الكاميرا، سنرى الذرات تتصرف بشكلِ طبيعي، وسيظهر هذا الشكل على الحائط الذي كنا نتوقع حدوثه في البداية.

إلى هنا والعلم يتوقف، إلى هنا تنتهي ميكانيكا الكم، أقصى ما تقوله ميكانيكا الكم إنك إذا وضعت أداة للمراقب سيظهر هذا الشكل، وإذا أزلت أداة المراقب سيظهر الشكل الآخر، ولكن السؤال الذي يفرض نفسه، ما هي طبيعة الضوء الحقيقية؟ ما هي طبيعة الذرات الحقيقية؟ هل هي موجات أو جسيمات؟ ولماذا حين وضعت أدارة للمراقبة تغيرت النتائج؟

ميكانيكا الكم لا تجيب، هي تقول لك ماذا تتوقع أن تجد من النتائج حين تجري تجربة ما بشكل غاية في الدقة والإحكام. ولكن حين تسألها لماذا؟ فليس هذا السؤال من شأنها. لذلك بدأ العلماء يفكرون في تفسير الواقع الحقيقي والطبيعة الحقيقية للمواد، فمنهم من قال: بما أن التجربة الأولى ظهرت موجة، والتجربة الثانية ظهرت جسيم، إذن فالواقع أن الضوء هو جسيم وموجة معًا. فإذا سألناهم وفي أيّ شِقّ تمر كل ذرة؟ قالوا: الذرة الواحدة تمر من الشقين معًا في حين عدم رصدها، ولكن إذا أردت أن تعرف على وجه اليقين، فعليك وضع أداة المراقبة، أما في حين إيقاف المراقبة، فالذرة الواحدة تمر في مكانين في نفس الوقت.

هذا التفسير للتجارب رفضه علماء كثيرون، كان على رأسهم ألبرت أينشتاين وقال بأن لا يمكن أن يكون هذا هو التفسير النهائي لهذه التجارب.

حينها تدخل العالم النمساوي إرفين شرودنغر (Erwin Schrödinger) كي يثبت لهم خطأ هذا التفسير، وتحداهم في تجربة القطة الشهيرة، متسائلًا وساخرًا:إذا كنتم تدعون أن الأشياء تكون في حالتين في نفس الوقت، والذرة تمر بالشقين في نفس الوقت، والضوء موجة وجسيم في نفس الوقت، فكيف تكون القطة حية وميتة في نفس الوقت؟ إذ لا توجد حالة وسط بين الحياة والموت!» فكانت تجربته الشهيرة سخرية من هذا التفسير لهذه التجارب.88

والسؤال الآن: هل ميكانيكا الكم تقول إن الضوء هو موجة وجسيم؟

الإجابة: لا، ميكانيكا الكم لا تتحدث عن الواقع أصلًا، وكل هذه الافتراضات هي افتراضات شخصية للعلماء يحاولون بها تفسير هذه التجارب، أما ميكانيكا الكم فهي مجرد معادلات تعمل ونتائج تُستنتج.

  • علماء أخرون أرادوا تفسير تجربة الشق المزدوج وقالوا: ببساطة، يتغير تصرف الجسيمات إذا تمت مراقبتها ليس لأنها تملك خاصية مزدوجة، ولكن لأن هذا الراصد يؤثر عليها ويتفاعل معها وتتأثر به، ولا حاجة لهذه التفسيرات الغريبة التي تقولونها.89
  • علماء آخرون قالوا: إن الجسيم له مكان محدد طول الوقت، ويمكن وصف حركته ومساره عن طريق الدالة الموجية.90 وهو ما يسمى بتفسير De Broglie–Bohm theory.
  • علماء آخرون قالوا: يمكن تفسير ما حدث من خلال فرضية العوالم المتعددة، فإذا سلك الجسيم مسارًا ما في هذا العالم، فإنه يسلك مسارًا مختلفًا في عالم آخر، وفي كل مرة يحدث فيها أي تغير للجسيم، ينتج عنها كون جديد.91
  • علماء آخرون يقولون: ومنهم البروفيسور العراقي باسل الطائي: أن الفوتون الواحد لا يظهر لا كموجة ولا كجسبم، بل هو جسيم تحت التخليق المستمر وهنا تظهر له الصفات الموجية. فيتصرف الفوتون المفرد مثل كينونة ثنائية موجة وجسيم في آن واحد. أما تحت الكاميرا الفائقة أو المراقب فسيظهر كجسبم فقط. وفي حين تمرير مجموعة من الفوتونات فستتصرف كأنها موجة.92

******

الخلط بين النظرية وتفسير النظرية

لاحظ أن لدينا الآن خمس وجهات نظر لتفسير تجربة الشق المزدوج، لكن في هذا الفيديو القصير جدًا – على سبيل المثال – ستجد أن المهندس السعودي عمر جبران، تبنى تفسير كوبنهاجن (التفسير الذي يؤيده نيلز بور) ليقول: «إن هذا ما تقوله ميكانيكا الكم نفسها، ليهدم بها مبدأ عقليًا وهو مبدأ اجتماع النقيضين.»

الأمر نفسه يتكرر أيضًا مع أحمد الغندور (الدحيح) الذي قال بالحرف الواحد في هذا الفيديو القصير: «أن ميكانيكا الكم تقول أنك يستحيل أن تعرف مكان الإلكترون وسرعته في نفس الوقت، إما هذا أو ذاك.»

والحق أن مبدأ عدم اليقين لهيزنبرج لا تقوله ميكانيكا الكم، وليس لدينا أيّ دليل حقيقيّ عن أن الإلكترون نفسه غير قابل لقياس أو لمعرفة سرعته ومكانه معًا. لا ندري شيئًا عن طبيعة الإلكترون، بل إن العالم الألمانيّ ألبرت أينشتاين جادل أيضًا ضد هذا المبدأ ورفضه، وتحداهم في تجربته الشهيرة المعروفة باسم Einstein’s light box الذي اقترح فيها أنه يمكن بشكلٍ طبيعي جدًا قياس طاقة الإليكترون وسرعته، وهو ما يجعل مبدأ هيزنبرج خاطئًا.93

لم يسلم مبدأ عدم التأكد لهيزنبرج من نقض أينشتاين النظري له، بل في الآونة الأخيرة تمت تجربة عملية في جامعة تورنتو في كندا تخرق مبدأ هيزنبرج بعد أن تمكن الباحثون من تخطي الحد الأقصى من الدقة الذي حدده هيزنبرج.94

وفي هذا الفيديو القصير، يقول أحمد سمير أنه وفقًا لميكانيكا الكم، وما تم إثباته علميًا أن الجسيمات الصغيرة تتواجد في حالتين في نفس الوقت. والحق أن ميكانيكا الكم لا تقول ذلك، ولم يتم إثبات ذلك علميًا، وإنما قوله هذا لا يتعدى إلا كونه تفسيرًا واحدًا من عدة تفاسير لميكانيكا الكم.95

ففي الوقت الذي يدعي فيه أحمد سمير أن الخاصية الموجية-الجسيميّة تم إثباتها علميًا، يقول هذا البحث العلمي المنشور في مجلة ناتشر:

«على الرغم من الملاحظات الحديثة جدًا بشأن الخاصية الموجية الجسيمية والتشابك الكميّ، فإن إمكانية حدوث هاتين السمتين الأساسيتين لميكانيكا الكم في وقتٍ واحدٍ تظل قضية مفتوحة.»

أعود فأؤكد: إن كل ما يُتداول من فرضياتٍ وتصوراتٍ حول ميكانيكا الكم ليس هو ميكانيكا الكم نفسها، بل هو محاولاتٌ بشريةٌ لتفسيرها وتأويل معادلاتها، وهذا ما يجب أن يُفهم بوضوح. علينا أن نُفرّق بين نظريةٍ رياضيةٍ دقيقةٍ تعمل بكفاءةٍ مُطلقة، وبين محاولتنا نحن لفهم طبيعة الواقع من خلالها.

فميكانيكا الكم لا تنصّ على أن للجسيمات خاصيةً مزدوجةً بين الموجة والجسيم، بل هذه مجرد محاولةٍ لتفسير سلوكها الغريب.
وميكانيكا الكم لا تقول إن هناك أكوانًا متعددة، بل هذا أحد التأويلات التي وضعها بعض العلماء لفهم نتائجها.
وميكانيكا الكم لا تزعم أن الأجسام توجد في مكانين في آنٍ واحد، بل هذا توصيفٌ بشريٌ لتفسير التراكب الكمّي.

ولعل أبسط تشبيهٍ لطبيعة ميكانيكا الكم هو تعاملنا اليومي مع أجهزة الكمبيوتر: فأنت تضغط زرًّا في لوحة المفاتيح، فتجد الحرف يظهر على الشاشة فورًا. أنت تتعامل مع الجهاز بمهارة، تستخدمه لإنجاز أعمالك، لكن هل تدرك حقيقة ما يحدث في الدوائر الكهربائية داخله؟ هل تفهم آلية البرمجيات العميقة التي تُترجم ضغطاتك إلى أوامر؟

كذلك هي ميكانيكا الكم؛ يستخدمها الفيزيائيون بامتياز، يحسبون بها أدق الظواهر، ويطبقونها في تكنولوجيا متقدمة، لكن لا أحد يعرف على وجه اليقين ماذا يحدث «خلف الكواليس»، ولا كيف ترتبط معادلاتها بطبيعة الواقع ذاته. وبهذا، فإن كل ما تسمعه أو تقرؤه عن ميكانيكا الكم ليس هو النظرية نفسها، بل هو مجرد تفسيرٍ من بين عشرات التفسيرات التي قد تتغير أو تتبدل، كما تغيرت من قبل تصوراتنا حول الكون.

فكما قال القائد النازي هيرمان جورينج مقولته الشهيرة «كلما سمعت كلمة (مثقف) تحسست مسدسي» وبعدئذٍ أخذ العالم الإنجليزي ستيفن هوكينج هذه المقولة وقال «كلما سمعت عن (قطة شرودنجر) تحسست مسدسي.»96

فيمكننا بعد هذه المعلومات المغلوطة التي تُنشر باسم ميكانيكا الكم، يمكننا بعد ذلك أن نقول:

كلما سمعت أحدًا يقول: (وفقًا لميكانيكا الكم..)، تحسست مسدسي.

Facebook
Twitter
LinkedIn