قصة لقاح أوكسفورد التي لا يعرفها أحد

المرض إكس

اعتادت منظّمة الصّحة العالميّة إصدار تقريرٍ سنويٍّ عن قائمة الأمراض والأوبئة الّتي تعصف بالعالم من حيث الأهمّيّة والخطورة، والّتي يجب على دول العالم التّصدّي الفوريّ لها. إلّا أنّه في شهر فبراير عام 2018 وفي تقرير منظّمة الصّحّة العالميّة عن الأمراض الّتي يجب أن تُوضع على قِمّة هرم الأولويّة، أضافوا في نهاية القائمة -ولأوّل مرّةٍ- مرضًا أطلقوا عليه اسم «المرض إكس – Disease X» أو المرض المجهول.[1] وما عنته منظّمة الصّحّة العالميّة أنّ هذا اسمٌ لمرضٍ مجهولٍ لنا الآن، ومجهولةٍ أسبابه. ولكنّهم أضافوا تلك الخانة الفارغة «المرض إكس» كنايةً عن توقّع نشوء مرضٍ لا نعرفه الآن قد يتسبّب في وباءٍ أو جائحةٍ عالميّةٍ. حيث تعمل المنظّمة على التّأهّب من الآن للمحاربة الفوريّة وأن تكون على أهبة الاستعداد لمقاومة هذا المرض المستقبليّ المجهول.[2] لذلك يمكن أن يصدق فيهم المثل المصريّ القائل: «يقدّرون البلاء قبل وقوعه». ومن الواضح الآن أنّ إضافة منظّمة الصّحّة العالميّة لهذه الخانة الفارغة لأيّ مرضٍ قد يتفشّى في بني الإنسان، كان خيارًا سليمًا حيث نرى ونعيش الآن جائحة كورونا الّتي تفشّت بعدها بسنتين.

بداية القصة

لكنّ القصّة خلف لقاح أوكسفورد لا تبدأ عام 2020، ولا تبدأ بمرض كورونا، بل حتّى لا تبدأ من دولة الصّين في آسيا. إنّما بدأت قبل تفشّي هذا الوباء بسنواتٍ كثيرةٍ، أكثر من 25 سنةٍ، تبدأ القصّة من إفريقيا وبمرض الملاريا على وجه التّحديد. حين التحقت سارة جلبرت (Sarah Gilbert) بجامعة أوكسفورد، لتعمل في معهد جينر (Jenner Institute) عام 1994، وفي ذلك الوقت كان قد انتشر وباء الملاريا في دول غرب إفريقيا. فعملت على فحصه ودراسته، ثمّ عملت بعد ذلك على الكثير من الأمراض والحمّيات الفيروسيّة بهدف إنتاج لقاحاتٍ لها. كمرض الإيبولا، وحمّى الوادي المتصدّع (Rift Valley fever) و فيروس لاسا (Lassa virus) و فيروس نيباه (Nipah virus)، بل من أشهرها فيروس كورونا ميرس (MERS-CoV) الّذي انتشر في الشّرق الأوسط وفي السّعودية على وجه التّحديد.

الدكتورة سارة جلبرت

كان هدف سارة جلبرت هو العمل على إنشاء نظامٍ كاملٍ لإنتاج لقاحاتٍ تعمل ضدّ أيّ فيروسٍ، حيث يُبنى النّظام المتكامل وتُترك فيه متغيّراتٌ بسيطةٌ لإضافة تركيب الفيروس الخاصّ بالمرض المعيّن. وحين يوضع تركيب الفيروس في هذا النّظام، سيتمكّن النّظام من تطوير لقاحٍ مضادٍّ لهذا الفيروس. وبالفعل تمكّنت من ذلك، وطُوّر لقاحٌ ضدّ فيروس ميرس وضدّ الإيبولا وضدّ الملاريا وضدّ فيروس زيكا (Zika) وغيرهم بتلك الطّريقة. ولا تزال التّجارب السّريريّة مستمرّةً حتّى اليوم.[3]

المسألة بشكلٍ بسيطٍ أشبه بهذه المعادلة:

تكمن الصّعوبة في كتابة المعادلة نفسها، ومعرفة هذه الأرقام. وسيكون حلّ المعادلة سهلًا جدًّا إذا علمت قيمة (x)، سأحصل بسهولةٍ على قيمة (y). بمعنًى أخر، هذا هو النّظام، ضع فيه التّركيب الجينيّ للفيروس الجديد (x)، وسينتج لك بشكلٍ سريعٍ اللّقاح المضادّ له (y).

وفي هذا الفيديو القصير شرحٌ مبسّطٌ لكيفيّة عمل اللّقاح:

كان الفريق البحثيّ في معهد جينر في جامعة أوكسفورد يتساءل خلال الفترة الماضية حول المرض إكس: هل يا تُرى، لو ظهر مرضٌ لا نعلمه الآن وانتشر في العالم، فهل سنكون مستعدّين لمواجهته بشكلٍ سريعٍ ومُتقنٍ؟ وبينما هم يفكّرون في إجابةٍ عن هذا السؤال، إذ ساقت لهم الأخبار نبأ انتشار فيروسٍ جديدٍ في مدينة ووهان في الصّين، فكأنّما قد أعطت لهم الأقدارُ فرصةً على طبقٍ من ذهبٍ ليتأكّدوا عمليًّا من إجاباتهم على السّؤال سالف الذّكر.

وحينها انتهزت سارة جلبرت الفرصة هي وفريقُها للعمل على هذا المرض الجديد. ليختبروا قدراتهم الّتي أعدّوها قبل ذلك، ما إن نشر العلماء الصّينيّون التّركيب الجينيّ للفيروس يوم 11 يناير. تقول الدّكتورة تريسا لامبي (Teresa Lambe) أنّ ما أيقظها ذلك اليوم هو صوت البريد الإلكترونيّ حاملًا إشعار نشر الورقة العلميّة الصّينيّة بالتّركيب الجينيّ للفيروس، لتبدأ فورًا بتصميم اللّقاح مع باقي أعضاء الفريق. وفي خلال يومين اثنين، السّبت والأحد، عمل الفريق ليل نهارٍ على اللّقاح الجديد، وانتهوا من تصميمه بشكلٍ شبه كاملٍ بنهاية يوم الأحد 12 يناير.[4]

بعد تصميم اللّقاح، أرسلت الدّكتورة سارة جلبرت إلى الدّكتورة كاثرين جرين (Catherine Green) رئيسة وحدة التّصنيع في جامعة أوكسفورد، تطلب منها المساعدة في صناعة هذا اللّقاح -الّذي صمّموه- في المصنع الصّغير الّذي ترأسه الدّكتورة كاثرين في جامعة أوكسفورد في أسرع وقتٍ ممكنٍ، حتّى يتمكّنوا من إنتاج كمّيّاتٍ كبيرةٍ من اللّقاح، ما يؤهّلهم إلى أخذ الخطوة التّالية وهي بداية التّجارب السّريريّة على الحيوانات ثمّ بعد ذلك على البشر.[5]

لم يكتف علماء أوكسفورد بتصميم وصناعة اللّقاح داخل جامعة أوكسفورد، بل كانوا هم أوّل من جرّبوه على أنفسهم. فقد كانت أوّل متطوّعةٍ يتمّ تطعيمها هي الباحثة إليسا جراناتو (Elisa Granato) في جامعة أوكسفورد. ومن المؤسف أنّه قد أُشيع خبر وفاتها بعد تلقّيها للّقاح، لكنّها خرجت وصرّحت بأنّها لم تمت كما يزعم النّاس وتتمتّع بكامل الصّحّة والسّلامة.[6]

خطأ في التجارب

كان من الصّعب أن تنتج أوكسفورد بمصنعها الصّغير كمّيّاتٍ كبيرةً جدًّا من اللّقاح، ومن ثمّ كان التّعاون مع شركة آسترازِنِكا (Astrazeneca) البريطانيّة لإنتاج ملايين الجرعات من لقاح أوكسفورد في مصانع تلك الشّركة. كما اتّفقت الجامعة والشّركة على أنّهما لن يتربّحا ملّيمًا واحدًا من اللّقاح أثناء الجائحة، وحتّى بعد الجائحة ستستمرّ الشّركة في عدم التّربّح من إنتاج اللّقاح في الدّول الفقيرة والنّامية. كما صرّحت أوكسفورد أنّ أيّ أموالٍ ستحصل عليها بعد الجائحة، ستُستثمَر في الأبحاث العلميّة في المجالات الطّبّيّة والحيويّة.[7] وبدأت التّجارب السّريريّة تأخذ نطاقًا واسعًا، فأجريت في البرازيل -حيث كانت نسبة العدوى والوفيات كبيرةً جدًّا، الثّانية عالميًّا في ذلك التّوقيت- وفي بريطانيا كذلك.

كانت فعالية اللّقاح تصل إلى 62%، إلّا أنّ الباحثين قد لاحظوا في إحدى التّجارب  أنّ المرضى أصيبوا بأعراضٍ جانبيّةٍ خفيفةٍ، وكان من المفترض أن تكون الأعراض الجانبيّة أكثر شدّةً ممّا حدث للمرضى. فراجعوا حساباتهم فوجدوا أنّهم -وعن طريق الخطأ- أعطوا المرضى نصف جرعةٍ من اللّقاح وليس جرعةً كاملةً. فقرّروا أن يستمرّوا في التّجارب وأن يعطوهم في المرّة الثّانية جرعةً كاملةً. وفي هذه الحال، زادت فعالية اللّقاح إلى 90%، بسبب ذلك الخطأ الّذي لم يكن مقصودًا. واعتُمد لقاح أوكسفورد بنصف جرعةٍ أوّلًا، تليها بعد ذلك جرعةٌ كاملةٌ.[8]

ربّما يذكّرنا هذا الموقف بإجابة الدّكتور أحمد زويل حين سُئل عن إيمانه بالحظّ، فقال:

«الحظّ لا يأتي إلّا لمن يستحقّونه.»[9]

لماذا لقاح أوكسفورد؟

وإذا كانت أوكسفورد قد أعدّت لتطوير اللّقاح قبل انتشار المرض بأكثر من عقدين، وإذا كانت قد بدأت العمل عليه في نفس اليوم الّذي نشر فيه العلماء الصّينيّون التّركيب الجينيّ للفيروس، وصمّموا اللّقاح في خلال 48 ساعةٍ فقط، وفي إجازة نهاية الأسبوع. بل بدأوا تصنيع اللّقاح أيضًا داخل مصانع الجامعة قبل التّعاون مع شركة آسترازِنِكا البريطانيّة، فمن المهمّ أن نعرف ما الّذي أوصل أوكسفورد لهذه الدّرجة الكبيرة من التّقدّم وقيادة العالم؟ لماذا أوكسفورد تحديدًا دونما باقي جامعات وشركات العالم؟ أو بصيغةٍ أخرى، ما الّذي يميّز أوكسفورد في تطويرها للّقاح في حين أنّ هناك الكثير من المؤسّسات قد طوّرت هي الأخرى لقاحاتٍ أيضًا؟ فهناك شركاتٌ أمريكيّةٌ وشركاتٌ ألمانيّةٌ وصينيّةٌ وروسيّةٌ لديهم لقاحاتٌ تمامًا كأوكسفورد، فما الّذي يجعل لقاح أوكسفورد ذا قيمةٍ عن غيره؟

جامعة أوكسفورد

أقول: إنّ الّذي يجعل قيمة لقاح أوكسفورد أكبر من غيره من اللّقاحات، أنّ كلّ اللّقاحات الأخرى لم تطوّرها جامعاتٌ، فاللّقاح الصّينيّ طوّرته شركة سينوفاك بَيوتك (Sinovac Biotech) الصّينيّة ومقرّها بكين.[10] واللّقاح الرّوسيّ طوّره معمل أبحاث جاماليا (Gamaleya Research Institute)، وهو معملٌ خاصٌّ بالحكومة الرّوسيّة وتابعٌ لوزارة الصّحّة الرّوسيّة ومقرّه العاصمة موسكو.[11] واللّقاح الأمريكيّ طوّرته شركة مودِرنا (Moderna) الأمريكيّة ومقرّها ماساتشوستس في الولايات المتّحدة.[12] واللّقاح الأخير الأمريكيّ-الألمانيّ طوّرته شركة فايزر (Pfizer) الأمريكيّة، بالتّعاون مع شركة بيو إن تك (BioNTech) الألمانيّة.[13] وحين تطوّر شركاتٌ خاصّةٌ أو معامل حكومةٍ لقاحًا ضدّ مرضٍ ما، فليس الأمر بغريبٍ ولا مُستبعدٍ؛ لأنّ الشّركات والحكومات لديها معامل عملاقةٌ وأموالٌ ضخمةٌ وأجهزةٌ ومعدّاتٌ على أعلى وأحدث المستويات. أمّا أن يطوّر معهدٌ في جامعةٍ لقاحًا – وهو لا يملك مثلما تملك الحكومات أو الشّركات – فذاك أمرٌ يجعل لقاح أوكسفورد مميّزًا عنهم جمعيًا؛ فما فعله معهدٌ داخل جامعة أوكسفورد منفردًا، يساوي ما فعلته دولٌ كاملةٌ بوزاراتها وحكوماتها وشركاتها مجتمعاتٍ.

بين الأزهر وأوكسفورد

هذا المبلغ العظيم الّذي بلغته تلك الجامعة لن يتّضح أثره بشكلٍ جليٍّ إلّا إذا قارنّاها بغيرها، فـ «بضدّها تُعرف الأشياء» كما قال المتنبّي.

تشابه البدايات

مكتبة الجامعة

«ومن جملَة ما باعوا خزانَة الكتب وكانَت من عجائب الدُّنْيا ويُقال إنَّه لم يكن فِي جَمِيع بِلاد الإسْلام دار كتبٍ أعظم من الدّار الَّتِي بِالقاهِرَةِ فِي القصر، ومن عجائبها أنّه كانَ بها ألفٌ ومائتان وعِشْرُونَ نُسْخَةً بتاريخ الطَّبَرِيّ ويُقال إنَّها كانَت تحتوي على ألفي ألفٍ وستّ مائة ألف كتابٍ.»[17]

العلوم الطبيعية

استخدام الطباعة

إصلاح التعليم

ميزانية الجامعة

تعليم البنات

النساء العاملات في معمل الدفع النفاث في وكالة الفضاء الأمريكية ناسا

القصة الحقيقية

Facebook
Twitter
LinkedIn