جرت هذه المناظرة بعد حوارين أو ثلاثة كنت قد أجريتها مع الدكتور حسن عيسى، وقد لاحظت منذ تلك اللقاءات الأولى ما في أسلوبه من كِبْر ظاهر، ونَفَسٍ مُتعالٍ لا تخطئه العين. غير أن انتقاله إلى منصة «تيك توك» قد أطلق العنان لهذا الأسلوب المغرور، إذ إن طبيعة هذه المنصة — القائمة على المبالغات والتأثير البصري واللفظي، والحرص على شدّ الانتباه ولو بالتفاخر الفارغ — قد زادت من حدّة طبعه، وجعلته أكثر ميلًا إلى التحدي الصاخب والتعالي الفارغ.
وإنني لأقولها دون تردد: إن أكثر ما تكرهه نفسي هو التكبر والعلو بغير حق، وهذان — ويا للأسف — قد بلغا في أسلوب الدكتور حسن مبلغًا جاوز المعقول وتعدى المقبول. وما ذلك إلا لأنه ما انفكّ ينظر إلى مخالفيه وكأنهم دونه عقلًا وأدنى فهمًا، وكأن الحقيقة قد رُزئت به وحده، وجُعل الناس تبعًا له، لا شركاء في العقل والمنطق والاستدلال.
وقد رأيت من واجبي أن أنشر الحوارات السابقة التي جرت بيني وبينه — متى ما يسّر الله — لتكون شاهدًا على ما قدّمتُ من حسن النية، وصبر الحجة، وسعة الصدر، ولتكشف للقارئ كيف تطور الموقف حتى بلغ هذه المناظرة الفاصلة.
وأُقِرّ للقارئ بصدق لا لبس فيه: لم يكن هدفي من هذه المناظرة أن أستعرض علمًا، ولا أن أطلب مدحًا، بل كان هدفي فيها أن أُسقط الغرور وأنزع عن هذا المتكبر وهمَ العظمة، فهو ممن يرى نفسه فوق الناس علمًا وفكرًا وعقلًا، ويحمل من الزهو ما لا يليق بباحث عن الحق. وهؤلاء، لا يُردعهم إلا هزة تردهم إلى حجمهم الطبيعي، وصوت يُسمعهم الحقيقة التي طالما تجاهلوها.
ورحم الله الفيلسوف الأديب زكي نجيب محمود إذ قال كلمته الخالدة:
ألا من يُبلغ عنّي كل مترفّع متغطرس أننا جميعًا — أعلانا وأسفلنا — على بُعد واحد من الشمس! ألا من يُبلغ عنّي كل متجبر متكبر، أنه إذا ظن نفسه واقفًا على قمة جبل ينظر إلى الناس صغارًا ضئالًا، فإن هؤلاء الناس كذلك ينظرون إليه من بطن وادٍ، فإذا هو أيضًا في أعينهم صغيرٌ ضئيل، لأن المسافة بينهم وبينه كالمسافة بينه وبينهم.
ولقد كان الدكتور حسن، في تلك الفترة، قد اتخذ لنفسه نغمة التحدي الجوفاء شعارًا له، فصار يكرر قوله: «أتحدى المسلمين في كذا»، و«أتحدى من يردّ كذا»، و«أتحدى وأتحدى»! وكأنّ العلم صار ميدان مصارعة لا حوار، وميدان منازلة لا استدلال.
فحين بدأنا التخطيط للمناظرة، قلت له — وكنت أعلم ما أقول —: «أنا مستعد أن أناظرك في أي موضوع تختاره، وأقبل أن تكون الشروط شروطك، والمكان مكانك، والزمان زمانك، والطريقة طريقتك». وقد تعمّدت هذا التسليم كي لا يكون له عذر، ولكيلا يقال: إن أحدًا فرض عليه شيئًا.
فاختار هو الموضوع بنفسه، إذ يختار المرء عادةً ما يظن أنه يتقنه ويتفوق فيه، ووافقته على ذلك. ثم عاد وقال إنه لا يريد أن يُثبت شيئًا، بل غايته الاعتراض على ما أطرحه أنا. فقلت له: «حتى هذا الاعتراض — وهو أهون ما يكون، يقدر عليه الطفل والشيخ، والجاهل والعالم — لن تُحسنه، فكيف بالبناء، وكيف بإقامة الدليل، وكيف بتقديم بديل فكري منطقي لما تنقضه؟».
غير أن المفاجأة الكبرى لم تكن في الموضوع المختار، بل في محاولته دفعنا إلى أن نجعل الاتفاق على التعريفات داخل المناظرة لا قبلها، وهي حيلة خفية من حيل المراوغة. إذ ما من مناظر يعرف قيمة الوقت إلا ويعلم أن إضاعة الوقت في الجدل حول التعاريف يستهلك المناظرة بأكملها، ويمنع الخوض في صلب القضايا، وهو ما كان يريده الدكتور حسن على وجه التحديد.
وقد جادل طويلًا كي نبقي التعاريف داخل الحوار، فلما وجدني أصرّ — ووجد كذلك أن الصديق مازن، منظم المناظرة، يرى رأيي — لم يملك إلا أن يرضخ، وإن كان ذلك قد أحبط خطته منذ البدء. ولَك أن تعلم، أيها القارئ الكريم، أن حوارنا حول التعاريف وحده تحوّل إلى مناظرة مصغّرة، تراجع فيها الدكتور حسن عن تعريفاته غير مرة، فظهر اضطرابه، وبدت هشاشة منطقه، وسقطت دعاواه.
وهكذا دخل المناظرة وهو في حقيقته مهزوم الفكر والروح، وقد خسر المعركة قبل أن تبدأ، فكانت النتيجة «٢–٠» قبل أن يبدأ الحوار.
كنت أعلم يقينًا أنني سأطرح أفكارًا لم يسبقني إليها أحد، لا لأنني صاحب وحي، بل لأنها حصيلة سنين من القراءة والتأمل والتفكير الحر، وهي حجج لم أقرأها مجتمعة في كتاب، بل نسجتها بيدي من خيوط ما قرأت، وفكرت فيها طويلًا حتى اكتملت في ذهني. ولهذا كان وقعها عليه مفاجئًا، فلم يجد لها ردًّا، ولا عهد له بها من قبل.
كنت أُحسن التخطيط كما يُحسن لاعب الشطرنج صنع خطواته، لا ينظر إلى الخطوة التي أمامه فقط، بل يرسم حركاته بناءً على ما يتوقع من خصمه. وهكذا كنت: أعرف الدليل الذي سأقدمه، وأتوقع الاعتراض، وأعد الرد قبل أن يُقال، وكان هذا جليًّا في قضية «النباتات»، فقد توقعت ما سيقوله، وجهزت ردّي العلمي قبل أن يتفوه بكلمته.
وكان هذا من أطرف ما في هذه المناظرة — بل من أعجب ما فيها — أن الدكتور حسن، الذي ما انفكّ يلهج بكلمة «العِلم»، حتى ليكاد يذكرها في الدقيقة الواحدة خمسة مليارات مرة! قد كان هو نفسه أبعد الناس عن جادّة العلم، وأضعفهم حجةً فيما يخص الأوراق العلمية والأبحاث التي ما فتئ يُطنب بذكرها ويُكثر من التباهي بها. لقد صدّع الملاحدةُ رؤوسَنا بـ «العِلم» و«الأوراق العلمية» و«المنهج العلمي»، حتى صاروا يظنون أنهم أوصياء عليه دون سواهم، وحُماة له دون غيرهم، فإذا فتّشت في كلامهم وجدته أبعد ما يكون عن الصدق العلمي، وأقرب إلى التلبيس والمغالطة. ولمَّا علمتُ هذه الحال، أردت أن أكشف الغطاء، وأن أُري القوم — وعلى رأسهم الدكتور حسن — أن العِلم لا يسير خلف الأهواء، وأنه بريء من دعاواهم، بل إن الأوراق العلمية نفسها تقول بعين البيان: إن ما يقوله هذا الرجل تدليس، وإن كلامه في حقيقته لا يعبر عن منهج علمي، بل هو قول مضرّ بالعلم، ومعيق لتقدمه، ومشوِّه لصورته. فانقلبت المعادلة! وإذا بي أنا — المؤمن بالله، المتمسك بحجج الإيمان — أرفع راية العِلم، وأستدلّ بالأوراق العلمية المحكمة، وأُعلي صوتي بها، فإذا بالدكتور حسن في موقف لا يُحسد عليه: لا علماً اتّبع، ولا صدقًا قال، ولا حتى حيادًا التزمه، بل كان رأيه أقرب إلى الجهالة، وأبعد ما يكون عن النزاهة العلمية. فما إن سُلط عليه نور الدليل العلمي حتى انكشفت دعواه، وانفضح منهجه، وظهر أنه لم يكن حاملًا للعلم، بل عالة عليه، يذكره بلسانه ويخالفه في فعله.
وهنا، كان مشهدٌ يستحق أن يُسجّل: المؤمن هو الذي يستدل بالعلم، ويعتزّ به، ويرفع رأسه به، والملحد هو الذي يبهت، ويضعف، ويعجز أن يردّ. وهذه لحظة نادرة في الحوارات الفكرية، وهي من المواطن التي أفخر بها في هذه المناظرة. فلك أن تتأمل، أيها القارئ، هذا المشهد العجيب: المؤمن يلوّح بالورقة العلمية، ويُفحم بها خصمه، والملحد يتلعثم ويضطرب، لا يجد في العلم ملاذًا، ولا في الورقة سندًا، فإذا هو صفر اليدين، مفضوح الحجة، ساقط المكانة.
بل حتى في القضايا الكبرى — كمسألة «أن الوجود خير من العدم، والحياة خير من الموت» — لم أكتفِ فيها بالردّ العلمي البارد، بل آثرت أن أكشف السخافة الكامنة في قول الدكتور حسن. فكيف لرجل يعيش في بريطانيا، ويؤمّن على حياته ضد الحوادث، ويشدّ الرحال إلى الأطباء متى ألمّ به أدنى وجع، ويعمل في أرقى المؤسسات، ويقيم في بيئة تُعلي من قيمة الحياة وتحميها بكل وسيلة، ثم بعد كل هذا يخرج علينا قائلاً — بكل تبجح أجوف —: «ما الدليل على أن الحياة خير من الموت؟!». أليس هذا تناقضًا يُضحك العقلاء، ويبكي الحكماء؟! وهل يُعقل أن يُنكر المرء بلسانه ما يُثبته بكل جوارحه، ويُبطل بحجّته ما يُمارسه في كل لحظة من حياته؟!
ولما بلغ به التناقض هذا الحد، قلت له — صريحًا كما ينبغي للحق أن يُقال —: «إن كنت ترى أن الموت خير من الحياة، فتفضل، اذهب ومت!» فما نطق ببنت شفة، ولا ردّ بكلمة، إذ سكتت الحجة، وتلعثم اللسان. وقديمًا قالت العرب: «قطعت جهيزةُ قولَ كلِّ خطيب»، وأنا أقول في هذا المقام: قطع فعلُه قولَ كل مجادل لعوب، إذ سقطت كلماتُه حين وقف أمام مرآة ذاته، فلا الموت فعله، ولا الحياة أنكرها، وإنما كابر، ثم سكت، ثم انهزم.
لقد أعددت لهذه المناظرة إعدادًا دقيقًا، ولي فيها حديث طويل لم يسعني أن أذكره كله في هذا الموضع، ولكنني أترك المجال الآن للقارئ الكريم، ليشاهد بنفسه، ويتدبر بعقله، ويحكم بعدله، فالحكم في النهاية — كما يقول أهل المناظرات — لمن يسمع لا لمن يصرخ، ولمن يُقيم الحجة لا لمن يرفع الصوت.