اقتربت الساعةُ ولم ينشقَّ القمر

ليس هذا المقالُ ضربًا من الكتابةِ العَجلى التي تلامسُ القضايا كما تلامسُ الريحُ وجهَ الماء، فتُحرِّك سطحَه دون أن تُقلِّب أعماقَه، بل هو بحثٌ طويلُ الذيل، عميقُ الجذور، لا يصلح لمن ضاق صدرُه عن التأمّل، ولا لمن اعتاد التقاطَ المعارفِ التقاطَ الطيرِ للحَبِّ من ظاهرِ الأرض. فمن كان دأبُه العجلةَ، ومنتهى قصدِه الاختزالَ والاقتضابَ، فليس له هنا مطلبٌ ولا سبيلٌ، إذ هذا مقامٌ لمن صبر على طولِ السَّيرِ حتى يبلُغَ غايةَ الفكرة، ومَن توشَّح بميزانِ العقلِ الناقدِ لا بعصابةِ التقليدِ الأعمى، فلا يرضى بظاهرِ القولِ دون باطنِه، ولا يطمئنُّ إلى السطحِ دون القاع، بل ينفذُ إلى عُمقِ المعنى، فيُجلِّي حقيقةً قد حجَبَها الضبابُ، وينزعُ حجابًا قد أسدلَتهُ الأوهامُ.

وإن من الخطأ أن يُشرع في الحديث عن انشقاق القمر دون أن يُمهَّد له بمقدمةٍ تُمسك بأطراف الموضوع، وتحيط به من جوانبه كلِّها، إذ إن هذه المعجزة ليست إلا غصنًا من شجرةٍ كبرى، وفرعًا يتشعب من أصلٍ أعمّ وأرسخ. وما كان لعاقلٍ أن يتحدث عن الفرع قبل أن ينظر في الأصل، ولا أن يبحث في الجزئيات قبل أن يضبط الكليات. ومن هنا، كان لزامًا أن نبدأ بما هو أولى وأحرى، فنناقش القاعدة التي تقوم عليها هذه المسائل، ثم ننتقل بعد ذلك إلى تفصيل الفروع، واحدًا إثر آخر.

وبما أن معجزة انشقاق القمر تُنسب إلى النبي الكريم محمد ﷺ، فإنّ مقتضى البحث الرصين أن نستهله بالحديث عن مقامه الشريف عند المسلمين، ثم عن المعجزات التي تُنسب إليه على وجه العموم، ثم عن المعجزات الحسية على وجه الخصوص: حقيقتها، ودلالتها، وما يُثار حولها من إشكالات. حتى إذا استبانت هذه المعالم، جئنا إلى معجزة انشقاق القمر، لا لنرويها كما تُروى الحكايات، بل لنضعها موضع النظر والاختبار، فنستعرضها من جوانبها العلمية والتاريخية والدينية، فلا نسوق فيها الدعوى سوقًا، بل نضعها على محك النظر، لتنكشف حقيقتها لكل ذي عقل. وحينئذٍ يدرك القارئ أنّ القمر ما انشقّ ولا تصدّع، بل بقي في عليائه كما خلقه الله، وإنما العقول هي التي تشظّت، فانقسمت طرائقها، فلا تكاد تميّز بين المحال والممكن، ولا بين البرهان والوهم. فلندع القمر في اكتماله ونصوعه، ولننظر في الأذهان التي اضطربت، فزلّت عن مدارج التحقيق، وانشقّت على نفسها، فما عادت تستقيم على نهج العقل ولا تثبت على محجة التدقيق.

******

بشرًا رسولًا أم ملكًا رسولًا؟

ذكر اللهُ عزّ وجلّ في كتابه الكريم اعتراضاتِ المشركين على أنبيائهم، واحتجاجهم بأنّ الرسول لا ينبغي أن يكون بشرًا مثلهم، إذ ضاقت عقولُهم عن تصوّر أن يختص اللهُ أحدًا من خلقه بالوحي، فأنكروا النبوة واستكبروا عن اتباع الرسل. فها هي ثمود تُكذِّبُ صالحًا — عليه وعلى سائر أنبياء الله الصلاة والسلام — وتقول في استهزاء واستنكار: ﴿أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ﴾؟ وقريش تُنكر على محمد ﷺ نبوّتَه، قائلةً: ﴿أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا﴾؟ وعادٌ تجابه نبيها هودًا عليه السلام بقولها: ﴿مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأكُلُونَ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ، وَلَئِنْ أَطَعْتُم بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ﴾. وكذلك قوم فرعون، الذين لم يزِدهم ما رأوا من الآيات إلا عنادًا، فقالوا في موسى وهارون عليهما السلام: ﴿أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا﴾؟

كانت إجابة رب العزة سبحانه أنه ﴿لَوْ كَانَ فِي الأرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنينَ لَنَزّلنَا عَلَيهِم مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا﴾. وقد أبدع إمامنا الجبّائي — رحمه الله ورضي عنه — في تفسيره لهذه الآية، وقال في تأويلها وجهًا لطيفًا، ومعنى شريفًا،1 إذ قال: «معناه مطمئنين إلى الدنيا ولذاتها، غير خائفين، ولا متعبدين بشرع؛ لأن المطمئن : من زال الخوف عنه». ومعنى كلام شيخنا الجبائي هو أنّ قريشًا لم تكن في طمأنينة الحق، وإنما كانت غارقةً في سكون الجهل، راكنةً إلى تقاليد الآباء، غافلةً عن حقيقة ما تعتقد، مسترسلةً في الحياة كما وجدتها، فلمّا جاءهم محمدٌ ﷺ برسالته، حرَّك عقولَهم، وزلزل يقينَهم، وأجبرهم على النظر في أصولهم ومعتقداتهم، فأحسّوا أنّ الطمأنينة التي كانوا فيها قد زالت، وأنّ الراحة التي نعموا بها قد انقلبت حيرةً واضطرابًا، فجزِعوا وقالوا: لقد كنّا في راحةٍ وأمان، فما لنا ولهذا التغيير؟ فجاءهم الردّ الإلهي بأنّ هذا هو شأن الرسل مع أقوامهم، وأنّ السنّة الإلهية أن يبعث اللهُ في كل أمةٍ رسولًا يخرجها من ظلمات الغفلة، ولو كان في الأرض ملائكةٌ مستسلمون لما ورثوه، قانعون بما لديهم، لنزّل الله عليهم رسولًا من جنسهم يوقظهم من جهلهم، ويدعوهم إلى الحق. فإنّ الطمأنينة في الجهل ليست طمأنينة، والركون إلى الخطأ ليس فضيلة، بل لو أنّ الملائكة – وهم من أفضل خلق الله – وقعوا في ذلك، لاحتاجوا إلى نذيرٍ يوقظهم، ورسولٍ يرشدهم.

وما أشبه هذا بحال سقراط الحكيم — رحمه الله ورضي عنه — حين وقف في محكمته مدافعًا عن نفسه، فقال: لو كان شرط إطلاق سراحي أن أكفّ عن دعوة الناس إلى الفلسفة، وحثّهم على طلب الحكمة، فلن أفعل، بل سأظلّ أجوب الطرقات، وأوقظ العقول الغافلة، وأوبّخ كل من رأيته منهمكًا في جمع المال، غافلًا عن العلم، قانعًا بالجهل، معرضًا عن طلب الحكمة. فكان سقراط بين قومه كنبيّ في أمّةٍ جاحدة، وكداعٍ إلى النور في أرضٍ ألفت الظلام!

. يقول سقراط:2

لو أنكم أطلقتم الآن سراحي، ورفضتم نصح أنيتس، الذي قال بوجوب إعدامي بعد إذ وجه إليَّ الاتهام؛ لأني لو أفلتُّ فسيُصيب الفسادُ والدمارُ أبناءكم باستماعهم لما أقول. لو قلتم لي يا سقراط، إننا سنطلق سراحَك هذه المرة ولن نأبه لأنيتس، على شرطٍ واحد، وذلك أن تقف البحثَ والتفكيرَ، فلا تعود إليهما مرةً أخرى، ولو شاهدناك تفعل ذلك أنزلنا بك الموتَ، إن كان هذا شرط إخلاء سبيلي أجبتُ بما يأتي: أيها الأثينيون! أنا أحبكم وأمجدكم، ولكني لا بد أن أطيع الله أكثر مما أطيعكم، فلن أُمسك عن اتخاذ الفلسفةِ وتعليمِها ما دمتُ حيًّا قويًّا، أسائلُ بطريقتي أيًّا صادفتُ بأسلوبي، وأهيب به قائلًا: ما لي أراك يا صاح تُعنَى ما وسعتْك العناية بجمع المال، وصيانة الشرف، وذيوع الصوت، ولا تنشُد من الحكمةِ والحقِّ وتهذيبِ النفس إلا أقلها، فهي لا تصادفُ من عنايتك قليلًا ولا تزن عندك فتيلًا، وأنت ابن أثينا، مدينة العظمة والقوة والحكمة؟ ألا يخجلك ذلك؟ فإن أجاب محدِّثي قائلًا: بل ولكني مَعنِيٌّ بها، فلن أُخليَ سبيلَه ليمضي من فوره، بل أسائله وأناقشه وأعيد معه النقاش، فإن رأيته خِلْوًا من الفضيلة، وأنه يقف منها عند حدِّ القول والادِّعاء، أخذتُ في تأنيبه؛ لأنه يَحْقِرُ ما هو جليل، ويسمو بما هو دنيء وضيع. سأقول ذلك لكل مَن أصادفه، سواء كان شابًّا أم شيخًا، غريبًا أم من أبناء الوطن، لكني سأخص بعنايتي بني وطني؛ لأنهم إخواني. تلك كلمة الله فاعلموها، ولا أحسب الدولة قد ظفرت من الخير بأكثر مما قمت به ابتغاء مرضاة الله، وما فعلت إلا أن أهبت بكم جميعًا، شيبًا وشُبَّانًا، أن انصرفوا إلى أنفسكم وما تملكون، وبادروا أوَّلًا بتهذيب نفوسكم تهذيبًا كاملًا، وها أنا ذا أعلمكم أن الفضيلة لا تُشترَى بالمال، ولكنها هي الْمَعِين الذي يتدفق منه المال ويفيض بالخير جميعًا، سواء في ذلك خير الفرد وخير المجموع. ذلك مذهبي، فإن كان مفسدًا للشبان؛ فاللهم إني مُودٍ بالشباب إلى الدمار. أمَّا إن زعم أحدُكم أن ليس مذهبي هو ذاك؛ فهو إنما يزعم باطلًا. أيها الأثينيون! سواء لديَّ أصدعتم بما يأمركم به أنيتس أم فعلتم بغير ما يشير، وسواء أأصبتُ عندكم البراءةَ أم لم أُصِبْها، فاعلموا أني لن أُبَدِّلَ من أمري شيئًا، ولو قضيتم عليَّ بالموت مرارًا.

وهذا هو عينُ ما قصده شيخنا الجبّائي — رحمه الله — في تفسيره لتلك الآية، أنَّ الملائكةَ، مع رفعةِ قدرهم وسموّ منزلتهم، لو قنعوا بالجهل، وركنوا إلى الضلال، لأنزل الله عليهم ملكًا رسولًا، يذكّرهم به، ويدعوهم إلى التوحيد والهداية. فإذا كان هذا شأن الملائكة، وهم أطهر الخلق وأفضلهم، فكيف تستعجبون أنتم، أيها البشر، أن يرسل الله إليكم رسولًا يدعوكم إلى الإيمان، ويرشدكم إلى الصواب، ويوقظ عقولكم من غفلتها؟

لكن، وبالرغم من تفسير شيخنا الجبّائي لهذه الآية، فإنّ السؤال لا يزال قائمًا، والإشكال لم يزل مطروحًا، بل ربما ازداد إلحاحًا: سلّمنا بأنّ الله يريد للناس أن يُعمِلوا عقولَهم، وأن يوقظهم من غفلتهم، وأن يحثّهم على النظر والتأمل، ولكن لماذا اختار الله أن يكون الموقِظ بشرًا مثلهم؟ ولماذا لم يرسل ملكًا، يكون أقدر على الإقناع، وأشدّ وقعًا في النفوس، وأعظم هيبةً في القلوب، فلا يجد الجاحد إلى إنكاره سبيلًا، ولا يجد المعاند إلى تكذيبه مفرًا؟!

وهذا السؤال قد حاول كثيرٌ من المفسرين الإجابة عنه: لماذا أرسل الله بشرًا ولم يُرسل ملكًا؟ وكانت الإجابة الأشهر في كتب التفسير أنّ الجنس يميل إلى جنسه، ويأنس إليه أكثر من ميله إلى غيره، فالبشر يفهمون بعضهم بعضًا، ويتأثرون بمَن يشاركهم طبيعتهم، أما في حال الملائكة، فسيكون التواصل معهم أعسر، والاقتداء بهم أبعد، إذ لا يأكلون كما نأكل، ولا يشربون كما نشرب، ولا يعتريهم الضعف الذي يعتري الإنسان، فكيف يُتّخذ قدوةً من لم يمرّ بما يمرّ به البشر؟!

لكن هذا التفسير، وإن بدا وجيهًا، لا يخلو من إشكال، إذ لو كان الأمر كذلك، لوجب أن يكون لكل جنسٍ رسولٌ من بني جنسه، فلا يُرسل إلى البشر إلا بشرٌ، وإلى الجن إلا جنيٌّ، وإلى الملائكة إلا ملكٌ، في حين أن النبي محمدًا ﷺ قد بُعث إلى الجن، وهذا مما انعقد عليه الإجماع، بل وذهب بعض العلماء، كالإمام تقيّ الدين السبكي وجلال الدين السيوطي، إلى القول بأن النبي ﷺ قد أُرسل إلى الملائكة كذلك.3 ولعلنا نمرّ مرورًا خاطفًا على ما ذكره الإمام السبكي في استدلاله على بعثة النبي ﷺ للملائكة، فقد استند إلى حديثٍ أخرجه عبد الرزاق في مصنفه عن عكرمة، قال: «صفوف أهل الأرض على صفوف أهل السماء، فإذا وافق آمينُ أهل الأرض آمينَ أهل السماء، غُفر للعبد.»4 واستنبط من هذا الحديث أنّ الملائكة، إذ يصلّون كما يصلّي المسلمون، ويصطفّون كما يصطفّ أهل الأرض، ويؤمِّنون كما يؤمِّنون، فإنّ ذلك دليلٌ على أنهم مكلَّفون برسالة النبي ﷺ، ومأمورون بشريعته.

ولكن ما يستوقف العاقل في هذا الحديث، الذي رُوي تارةً عن عكرمة وتارةً عن أبي هريرة، هو هذه القضية العجيبة: كيف يكون غفران الذنوب معلقًا بمحض مصادفةٍ زمنية، لا يد للعبد فيها ولا اختيار؟! ما العلاقة بين أن أقول «آمين» في لحظة معينة، وأن يقولها ملكٌ في السماء في اللحظة ذاتها، وبين أن تُمحى ذنوبي وتُغفر خطاياي؟! ومن أين لأبي هريرة وعكرمة بهذا الكلام الغيبي الذي لا يعلمه إلا رب العزة سبحانه؟!

إنني لا أرى فرقًا بين هذا، وبين أن يُقال: «من وافق حجمُ وجهه حجمَ يده غُفر له، أو من طابق طولُ ذراعه طولَ ذراع مَلَكٍ في السماء غُفر له، أو من ساوى لونُ عينيه لونَ أعين أهل الجنة غُفر له!» ألهذه الأسباب تُغفر الذنوب؟! أيمحو الله خطايا العباد بناءً على أمرٍ ليس لهم فيه اختيار، ولا يد لهم في تحقيقه؟! إنّ الغفران لا يكون إلا بتوبةٍ صادقة، وعملٍ صالح، وسعيٍ في الخير، فكيف يُجعل أمرٌ كهذا ميزانًا للمغفرة؟!

ذكر ابن الجوزي بإسناده عن عثمان الورّاق،5 قال:

رأيت العتابي يأكل خبزًا على الطريق بباب الشام، فقلت له: ويحك! أما تستحي؟ فقال لي: أرأيت لو كنا في دار فيها بقر أكنت تحتشم أن تأكل وهي تراك؟ قال: فقلت: لا. قال: فاصبر حتى أعلمك أنهم بقر. فقام فوعظ وقَصَّ حتى كثر الزحام عليه. ثم قال لهم: رُوي لنا من غير وجهٍ أنَّ مَن بلغ لسانُه أرنبةَ أنفه لم يدخل النار. قال: فما بقي منهم أحدٌ إلا أخرج لسانَه يُومئ به نحو أرنبته ويقدره هل يبلغها. فلما تفرقوا قال لي العتابي: ألم أخبرك أنهم بقر؟

لكن، فلنكفّ عن الإطالة في سَرد ما قاله بعضُ العلماء في اتّساع دائرة بعثة النبي ﷺ، فقد زادوا فيها حتى جاوزوا المألوف، وأفرطوا فيها حتى خالفوا المعقول، فلم يكتفوا بكونه رسولًا إلى العرب، ولا بكونه رسولًا إلى العجم، ولا حتى بكونه رسولًا إلى الإنس والجن، ولا حتى رسولًا إلى الإنس والجن والملاكئة، بل أطلقوا العنان لأقوالهم حتى شملت البعثةُ من لم يُخلق بعد، وأحاطت بمن لا يَعقِل ولا يُكلَّف! فقال بعضهم: إن النبي ﷺ لم يُرسل إلى مَن وُلدوا في زمنه ومن جاءوا بعده فحسب، بل بُعث إلى الإنس جميعًا، منذ أن خلق اللهُ آدمَ إلى قيام الساعة! أي أنّ أقوام نوح وإبراهيم وموسى وعيسى، وسائر الأمم التي خلت، كانوا مأمورين بالإيمان بمحمد ﷺ قبل أن يُبعث، بل قبل أن يولد بمئات السنين، بل بألوفها! وكأنّ على هؤلاء أن يؤمنوا بنبيٍّ لم يُخلق بعد، وأن يتبعوا رسالةً لم تُنزل، وأن يؤمنوا بدعوةٍ لم تُعلَن، وبدين لم يُعرف!

ثم لم يقف بهم الحدّ عند هذا العجب، بل جعلوه ﷺ رسولًا إلى الأنبياء الذين سبقوه. ثم لم يكتفوا بذلك، بل قالوا إنه ﷺ رسولٌ إلى الحيوانات، فليس في الأرض دابّةٌ إلا وهي داخلةٌ في أمّته، خاضعةٌ لحكمه، مأمورةٌ باتّباعه! ثم لم يقتصروا على هذا من الجنون، بل قالوا إنه ﷺ رسولٌ إلى الجمادات كذلك، وكأنّ الجبال والأشجار والصخور والرمال قد خوطبت بالوحي، وكُلّفت بالاتباع والطاعة!6

فإذا بهم يجعلون الرسالة المحمدية بحرًا لا ساحل له، وسيلًا لا يحدّه سدّ، فلا تعرف حدًّا، ولا تنحصر في زمانٍ أو مكان. فتشمل الحيَّ والجماد، والعاقل وغير العاقل، والمكلَّف وغير المكلَّف، فلا يُستثنى منها إنسانٌ وُلد أو لم يُولد، ولا مخلوقٌ يعقل أو لا يعقل، بل تتغلغل في الأزمان الغابرة، فتخاطب من مضى قبل البعثة بمئات القرون، وتمتدّ في الأزمان الآتية، فتعمّ من لم يُخلق بعد، وتخاطب الكونَ كلَّه، فلا تدع حجرًا ولا شجرًا، ولا وحشًا ولا طائرًا، ولا نجمًا في السماء ولا موجةً في البحر، إلا وهي داخلةٌ في دائرتها، مشمولةٌ بأحكامها.

هل المعجزات تلد أم تبيض؟

كان هذا مثالًا واحدًا لتضخيم دعوة النبي، وإن شئت قرأت لجورج طرابيشي كتابه البديع وهو يورد مثالًا عن تضخيم معجزات النبي، 7 فابن هشام (ت ٢١٨) الذي يورد عشر معجزات في سيرته التي كتبها في مطلع القرن الثالث، يزيد عليه بعد ذلك الماوردي (ت ٤٥٠) الذي جاء بعده بقرنين ليورد في كتابه «أعلام النبوة» أربعين معجزة. لكن الذي يستحق الوقوف عنده هو نوعية المعجزات التي ذكرها الماوردي في كتابه، يقول الماوردي: «ومن أعلامه: أن رسول الله ﷺ لما حصل بالحديبية وهي جافة قال للناس: انزلوا. فقالوا: يا رسول الله، ما بالوادي ماء ننزل عليه. فأخرج سهمًا فدفعه إلى البراء بن عازب، وقال: اغرز هذا السهم في بعض قلب الحديبية وهي جافة، ففعل فجاش الماء ونادى الناسُ بعضَهم بعضًا مَن أراد الماء… وهذا نظير ما أعُطى ‌موسى من الحجر الذي انفجرت منه اثنتا عشرة عينا.8 كانت تلك إذن محاولة الماوردي لأن يجعل لرسولنا الكريم ﷺ معجزات تشبه معجزات موسى عليه السلام، ولا يكتفي الماوردي أن يورد معجزةً للحبيب النبي عن انفجار العيون من الماء كما انفجرت الأرض عيونًا إلى موسى، لكنه يذكر معجزة أخرى، ألا وهي انشقاق البحر لموسى عليه السلام، فيقول الماوردي: «ومن أعلامه: ما رواه علي بن أبي طالب قال: لما غزونا خيبر ومعنا من يهود فدك جماعة، فلما أشرفنا على القاع إذا نحن بالوادي والماء يقلع الأشجار ويهدهد الجبال فقدرنا الماء فإذا هو أربع عشرة قامة فقال بعض الناس: يا رسول الله، العدو من ورائنا والوادي قدامنا فنزل رسول الله ﷺ فسجد ودعا ثم قال: سيروا على اسم الله، فعبرت الخيل والإبل والرجال فكان الفتح والغلبة له. وهذا نظير ‌فلق ‌البحر لموسى.9

انظر كيف أضاف الماوردي معجزات للرسول الكريم من جنس معجزات موسى، فإذا شقَّ موسى البحرَ وسار في الماء، فموسى ليس بأفضل من محمد؛ فقد شُقَّ البحرُ لمحمدٍ وسار هو كذلك في الماء. ثم يورد الماوردي بعد ذلك معجزات تشبه معجزات عيسى، فيورد تكثير الطعام للنبي محمد، ويقول وهذا من جنس مائدة سيدنا عيسى. ويورد معجزةً للنبي محمد ﷺ وهو يشفي المجذومين، ويقول: وهذا من جنس إبراء عيسى للأكمه والأبرص. بل يزيد الماوردي في معجزاته التي ينسبها للنبي ويقول: أن رجلًا جاء إلى النبي ﷺ فأخبره أن ابنته ماتت، فقال له النبي ﷺ لأبيها: ما كان اسمها؟ فقال: فلانة. فقال النبي: يا فلانة، أجيبي بإذن الله. فخرجت الصبية وهي تقول: لبيك يا رسول الله وسعديك. فقال لها: إن أبويك قد أساءا، فإن أحببت أن أردك إليهما. فقالت: لا حاجة لي فيهما، وجدت الله خير أب منهما. وهذا نظير ما فعله عيسى عليه السلام من إحياء ‌الموتى.

أما البيهقي في كتابه «دلائل النبوة»، فسنجد أن المعجزة التي تحدث عنها ابن هشام في أربعة أسطر، قد أخذت عنده ست صفحات كاملة. فابن هشام الذي قال في عنوان جانبي «سلام الحجر والشجر عليه»، نجد أن البيهقي يُفرد لتلك المعجزة بابًا كاملًا ويقول: «باب انقياد الشجر لنبينا محمد ﷺ».10

نعود فنقول: ذكر ابن هشام عشر معجزات للنبي في بداية القرن الثالث، وبعد قرنين ذكر البيهقي والماوردي أربعين معجزة، الآن وبعد ثلاثة قرون يذكر القاضي عياض ١٢٠ معجزة في كتابه «الشفا بتعريف حقوق المصطفى».

وإذا ما ذهبنا إلى ابن كثير في القرن الثامن في كتابه «البداية والنهاية»، فسنجد أن معجزةً — كحنين الجذع — التي ذكرها ابن إسحاق بسند واحد، ثم أتى البيهقي وذكرها بثلاثة أسانيد، إذ بابن كثير يوردها بتسعة أسانيد بعد ثمانية قرون من وقوعها المزعوم. فإذا لم نجد زيادة في عدد المعجزات، فقد زادوا في عدد أسانيدها، وكأن الأسانيد تلد أو تبيض مع مرور الزمن.

وإذا ما انتقلنا إلى القرن الحادي عشر، وجدنا أبا الفرج الحلبي في سيرته يروي لنا من المعجزات ما لم يقع في عهد النبوة فحسب، بل امتدّ حتى شمل زمنًا لم يكن فيه النبي ﷺ قد وُلد، بل لم يكن آدم نفسه قد خُلق بعد! فهو يورد المعجزات لقبيلته، فيجعل قريشًا نورًا يتلألأ بين يدي الله قبل أن يُخلق آدم بألفي عام، وحين خُلق، جعل الله ذلك النور في ظهره، وكأنّها قبسٌ من الأزل يسري في أصلاب الآباء حتى يستقر في محمد ﷺ! ثم يروي المعجزات لجده عبد المطلب، فيجعله من المخاطَبين بالوحي، إذ يأتيه هاتفٌ في منامه كل ليلة يأمره بحفر زمزم، ثم إذا حفرها، جاءه هاتفٌ آخر يأمره بنذرٍ عظيم، ثم لا يزال الهاتف يزيد في قيمة النذر حتى يقرّر عبد المطلب أن يذبح أحد أبنائه! وكأنّه إبراهيم عليه السلام، الذي رأى في المنام أنه يذبح ابنه. ثم يروي المعجزات لأبيه، فيجعل عبد الله بن عبد المطلب يسير في الأرض، والنور يتلألأ في وجهه، حتى تراه كاهنةٌ فتدرك أن في صلبه نبيًّا، فتطلب الزواج منه، وكأنّ النبوة أصبحت نورًا يُرى، لا وحيًا يُوحى! ثم يروي المعجزات أثناء حمل النبي ﷺ، فيجعله ذاكرًا لله وهو في بطن أمّه، وكأنّ الوحي نزل عليه وهو جنين! ثم يروي المعجزات عند ولادته، فيجعل نور المجوس ينطفئ، والسماء تتغير، وكأنّ الأرض والكون كلّه كانا يرقبان هذا المولود!

ولكن، إن كان هذا كلّه مما اعتدنا سماعه، فإنّ ما نقله الحلبي عن الواقدي يزيد من الغرابة، إذ يروي أن النبي ﷺ حين وُلد تكلم، فقال: «الله أكبر كبيرًا، والحمد لله كثيرًا، وسبحان الله بكرةً وأصيلًا!» ثم يستمر سيل المعجزات، فلا يكتفي الراوي بمعجزات الميلاد، بل يروي معجزات الرضاعة، ومعجزات طفولته في بني سعد، وكأنّ حياته كلها لم تكن إلا خرقًا للعادات، ونسفًا للنواميس!

فإن قرأ القارئ ما أورده الحلبي، خُيّل إليه أنّ تلك الأزمان لم تكن كسائر الأزمنة، بل كانت مسرحًا تتوالى فيه العجائب بلا انقطاع، وكأنّ الكون بأسره لم يكن إلا ميدانًا للمعجزات، تتفجّر في كل لحظةٍ وعلى كل بقعة. فلو رفعت حجرًا، انبعث من تحته الأنوار، أو لربما سمعْت هاتفًا يناديك بسرٍّ عظيم. ولو نظرت إلى السماء، انفرجت لك الأسرار، ولو خطوت خطوةً، تعثّرت في كرامة، وكأنّ الأرض لا تُنبت شجرًا بل تُنبت خوارق، وكأنّ الزمن لا يحسب بالدقائق والساعات، بل بالمعجزات المتتابعات! فلا مألوف يُعهد، ولا سنّةٌ تُحفظ، بل كلّ شيءٍ يمضي على غير ما ألف الناس، وكأنّ العالم قد انقلب رأسًا على عقب، فلم تبقَ للنواميس قوانين، ولا للمألوف عادة ولا نظام!

وبمناسبة حادثة شقّ الصدر، فإنّ أهل الحديث لم يُجمعوا على مرّةٍ واحدةٍ لها، بل اختلفوا فيها اختلافًا واسعًا، فمنهم من قال: وقعت مرةً، ومنهم من قال: بل وقعت مرتين، ومنهم من زادها إلى ثلاث، وكأنّ قلب النبي ﷺ كان موضعًا لعملياتٍ جراحيةٍ متكررة، لا يكاد يُغلق جرحٌ حتى يُفتح آخر! لكن إن أخذنا ما صحّ من الروايات، فإنّ البخاري ومسلم يرويان أنّها وقعت مرتين، مرةً وهو طفلٌ في بني سعد، وأخرى قبيل الإسراء والمعراج..11 أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أنس بن مالك أن رسول الله ﷺ أتاه جبريل وهو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشقّ عن قلبه، فاستخرج القلبَ، فاستخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لَأَمَهُ، ثم أعاده في مكانه، وجاء الغلمان يسعون إلى أمه، يعني ظئره، فقالوا: إن محمدًا قد قُتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون، قال أنس: وقد كنت أرى أثر ذلك المِخْيَطِ في صدره.

لكن هذه الرواية، رغم شهرتها، تثير سؤالًا لا مفرّ منه: إنها تفترض أنّ في قلب الإنسان جزءًا ماديًّا، هو «حظّ الشيطان»، يمكن استخراجه كما تُستأصل الزائدة الدودية، فما هو هذا الجزء العجيب؟ وأين هو في القلب الذي بات علم التشريح يعرفه شريانًا شريانًا، ووريدًا ووريدًا؟ أهو في البطين الأيمن أم الأيسر؟ في الأذين أم في الصمّام؟ أهو جزءٌ من الشريان التاجي أم من الأوردة الرئوية؟ أهو نسيجٌ خفيٌّ لا يراه إلا جبريل، أم بقعة سوداء تعجز عنها مباضع الأطباء؟ فليجبنا أهل الطب، أو الفقهاء، أو المحدثون، أو من شاء من أهل العلم، ما هذه العلقة، وأين نجدها؟ ألا يستحق هذا السؤال بذل كثيرٍ من الجهد للإجابة عنه؟ إذ لو تم أثبات أن هناك جزء مادي في القلب يمكن استخراجه وانتزاعه منه، وهذا الجزء متعلق بالشيطان (أو فعل الذنوب والمعاصي)، ألن تكون تلك ضربة قاضية لجميع الملحدين والكافرين على وجه الأرض؟ وسيكون هذا الاكتشاف هو أقوى دليل وأعظم برهان وأبلغ حجة على صحة الإسلام؟

ثم إن سلّمنا بصحة الرواية، وقلنا إن جبريل قد نزع «حظّ الشيطان» من قلب النبي ﷺ وهو طفل، فلِمَ الحاجة إلى شقّ صدره مرةً أخرى عند الإسراء والمعراج؟ أكان للشيطان نصيبٌ يتجدّد، أم أنّ العملية الجراحية التي قام بها الطبيب جبريل — عليه السلام — لم تكن ناجحةً في المرة الأولى؟ أم أنّ ذلك الجزء قد عاد إلى قلبه كما يعود الورم الخبيث بعد الاستئصال؟

بل إن كان «حظّ الشيطان» قد فُصل عنه إلى الأبد، فلماذا يقول له الله: ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ﴾؟ ولماذا يأمره بالاستعاذة عند قراءة القرآن ﴿فَإِذا قَرَأْتَ القُرْآنَ فَاسْتَعِذْ باللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾، وكأنّ الشيطان لا يزال يجد إليه سبيلًا؟ ولماذا يقول له: ﴿وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ القَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾؟

ألم يكن الأجدر أن يكون هذا الخطاب موجّهًا إلينا نحن، لأنّ قلوبنا لم تُطهّر من نصيب الشيطان كما طُهّر قلبه؟ أما هو ﷺ، فإن كان قد خُصّ بانتزاع هذا النصيب، فكيف يُتصوّر أن يكون بحاجةٍ إلى الاستعاذة؟ وكيف يُعقل أن يكون مهدَّدًا بنزغ الشيطان وإغوائه؟ أيكون التطهير ناقصًا، أم أنّ الأمر برمّته يحتاج إلى إعادة نظر؟!

مهما يكن من شيء، فكما أن المثال الأول كان على المبالغة في دعوة النبي الكريم، وأنه ليس مرسلًا لقومه كباقي الأنبياء، وليس مرسلًا إلى من يتحدث بلسانهم كباقي الأنبياء، بل مرسل للعرب والعجم. وليس مرسلًا للأحياء فقط، بل مرسل لمن ماتوا قبل بعثته. وليس مرسلًا للإنس فقط، بل للإنس والجن. وليس مرسلًا لمن يعقل على الأرض، بل مرسل للحيوانات والجمادات. وليس مرسلًا لمن هو على كوكب الأرض من حجر وشجر ونباتات وإنس وجن، بل مرسل إلى كل من على الأرض وكل من في السماء من ملائكة ومخلوقات. وليست معجزته القرآن إذ نبغ في اللغةِ قومُه، بل يُشقّ له البحر كموسى، وتنفجر له عيون الأرض كموسى، ويُحيي الموتى ويتكلم في المهد كعيسى، بل زاد عليهم بأن تكلّم حتى قبل المهد وهو في بطن أمه. ولم تتوقف المعجزات له فقط، بل امتدت لأصحابه، فهاك عمر بن الخطاب يقول: يا سارية، الجبل. ليسمع الصحابي ساريةُ بن زنيم الدئلي وهو في بلاد الفرس صوتَ عمر بن الخطاب وهو على منبره في المدينة، وهاكم عمر يخبر عليًا بما رأى عليٌ في منامه قائلًا: لو زادك رسول الله لزدناك.

وسط تلك المبالغات التي أضيفت للنبي الكريم، ووسط هذا الغلو في مقامه ﷺ، ورغم تلاوة المسلمين لآيات القرآن التي تستنكر على المسيحيين غلوهم في عيسى بن مريم ﴿يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انتَهُوا خَيْرًا لَّكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إله وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَّهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وكفى بِاللَّهِ وَكِيلًا﴾ لم يعد التبرير بأن الله قد أرسل بشرًا رسولًا ليسهل على الناس اتباعه والاقتداء به والسماع منه؛ إذ جُعل الأنبياء بلسان الحال — بل ولسان المقال — أعلى قدرًا وأعظم معجزات من الملائكة أنفسهم، فلربما لو أُرسل ملكًا لما نُسبت إليه تلك الخوارق التي نسبها المسلمون للنبي محمد ﷺ.

وسط تلك الصورة الملائكية — بل الأعظم من الملائكية — لنبينا محمد ﷺ، تبقى صورة باقي الأنبياء بشرية وواقعية وبعيدة عن تلك المبالغات التي نسبها البعض لرسول الله؛ ذلك أن المسلمين لا يهتمون إلا برسول الله ﷺ، ولا يعنيهم كثيرًا الأنبياء الآخرين. انظر إلى الرواية التي أخرجها البخاري ومسلم في صحيحيهما عن أبي هريرة أن النبي ﷺ قال: «لم يكذب إبراهيم النبي  قط إلا ثلاث كذبات؛ ثنتين في ذات الله… وواحدة في شأن سارة». في الوقت الذي يُروى فيه أن إبراهيم  كذب في ذات الله جل شأنه، يُروى أن رسول الله ﷺ قال: إني لأمزح ولا أقول إلا حقًا. فمن اليسير أن يروي المسلمون كذب إبراهيم  في ذات الله، لكن من المستحيل أن يكذب رسول الله في المزاح!

بل يكفي تدليلًا على ذلك حديث الشفاعة الشهير، حيث يذهب الناس يوم القيامة إلى جميع الأنبياء، فيرفض كل نبي أن يتشفع في الناس لأجل ذنب اقترفه، فآدم أكل من الشجرة وعصى ربه، ونوح سأل الله أن ينجي ابنه، وإبراهيم يقول أنه كذب ثلاث كذبات، وموسى يقول أنه قتل رجلًا خطًأ، ثم يأتون عيسى فيرفض، ثم يذهبون إلى محمد — عليه وعلى جميع أنبياء الله ورسله الصلوات والسلام — فيقبل أن يشفع فيهم. فلنغض النظر عن قضية الشفاعة ففيها من الخلاف ما الله به عليم، ولننظر إلى الحديث الذي يُعلي قدرَ النبي محمد على غيره من الأنبياء، وذلك أمر لا إشكال فيه، فلله أن يُفضِّل مَن يشاء ويصطفي مِن عباده وأنبيائه ورسلِه مَن يشاء، لكن الإشكال هو مبرر هذا التفضيل المذكور في الحديث، فالأنبياء رفضوا الشفاعة لأجل أخطاء وقعوا فيها، آدم اعتذر بأنه عصى ربه وأكل من الشجرة، مع أن الله تاب عليه وهداه، أيلوم اللهُ نبيًا على ذنب تاب منه؟ أيُلام نوح على طلب نجاة ابنه، مع أنه تاب وأناب وقال ﴿رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ﴾. ثم لو سلّمنا أن الأنبياء يرفضون الشفاعة لأنهم فعلوا ذنبًا ثم تاب الله عليهم منه، فعيسى لم يذكر ذنبًا في الحديث، فلم لا يشفع للناس؟ ونبينا محمد ﷺ أخطأ أكثر من مرة في القرآن، حرّم ما أحل الله له، واستغفر للمشركين، وأذن للمخلفين بالرجوع عن الحرب، وعبس في وجه الأعمى، وأخذ الأسرى في بدر، وقَبِل الفداءَ قَبْل أن يُثخن في الأرض. فبناءً على منطق الحديث الذي أخبرنا عن عدم شفاعة آدم مع أن الله قد تاب عليه وهدى، كان يجب ألا تُقبل شفاعة محمد ﷺ مع أن الله قد قال له ﴿عَفَا اللَّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُم﴾؟

لماذا هذه المقدمة الطويلة؟

أقول: من لم يدرك كيف تطوّر الفكر الإسلامي، وكيف نما تقديس المسلمين للنبي الكريم عبر القرون، وكيف وُلِدت المعجزات أو باضت مع مرور الأزمان، فإنه يستحيل أن تتكوّن لديه صورةٌ صحيحةٌ عن الماضي والحاضر، فضلاً عن أن يكون قادرًا على مناقشة قضية كمعجزة انشقاق القمر. فكيف يُرجى منه الحديث عن هذه المعجزة، وهو لم يدرك بعدُ أن الزمن كلما امتدّ، تكاثرت معه الخوارق، وتناسلت الأسانيد، فتلد الرواية رواية، والمعجزة معجزة، وكأنّ للتاريخ خصوبةً لا تنضب، كلما مضى قرنٌ، زادت فيه الأعاجيب؟

إنه لا بدّ للمرء أن يعلم أن كثيرًا من المعجزات المنسوبة إلى النبي ﷺ ليست سوى وهمٍ وخرافة، دُسّت في التاريخ بعد وفاته بأزمنة، ونُسبت إليه بعد أن لم يكن لها في حياته ذكرٌ ولا خبر. فمن ذا الذي يصدّق أن النبي ﷺ تكلم في المهد كما تكلم عيسى عليه السلام؟! ومن ذا الذي يظن أنه كان يحيي الموتى كما كان يفعل المسيح؟!

لكن السؤال الأهم: أفلا تكون معجزة انشقاق القمر من جنس هذه المعجزات التي لا أصل لها، ولا سند، ولا حقيقة؟ الحقّ أنّ الجواب نعم، وسيجد القارئ الدليل على ذلك رأيَ العين، حين يُمعن النظر، ويتتبع الروايات، ويرى كيف وُلِدت هذه المعجزات، وكيف تكاثرت، حتى صار بعضها ظلًّا لبعض، وكأنّ الأسطورة تلد أسطورةً، والخرافة تنجب خرافةً أخرى!

******

﴿أولم يكفهم أنا أنزلنا عليك الكتاب يُتلى عليهم﴾؟

وإنّ من أعجب العجب أن يؤكّد اللهُ في كتابه مرارًا وتكرارًا أنّه لن يُرسل إلى المشركين معجزاتٍ حسية، وأنّ القرآن وحده هو الآية الكبرى والحجّة الباقية، ثم نجد بعد ذلك أنّ المحدثين والمفسرين وأهل السير يسردون للنبي ﷺ معجزاتٍ لا يُحصيها العدّ، حتى أوصلها بعضهم إلى ثلاثة آلاف معجزة! فأيّ تباينٍ أشدّ من هذا؟ وأيّ تناقضٍ أظهر من أن يُقرّر الله شيئًا في كتابه، ثم يأتي أهل الرواية ليخالفوه بما يحشدونه من أخبارٍ تتزايد مع الزمن، وتتكاثر مع امتداد القرون، فتلد الرواية روايةً أخرى، ويبيض السند سندًا آخر، وتفقس المعجزةُ معجزةً آخرى؟!

لكن الناظر في كتاب الله لا يجد للنبي ﷺ أي معجزاتٍ سوى اثنتين:

  • أما الأولى، فهي الإسراء، وقد جاء ذكرها في آيةٍ واحدة: ﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْده لَيْلًا مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا، إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ﴾. وأقول الإسراء، ولا أقول المعراج، إذ ليس للمعراج ذكرٌ في القرآن، رغم ما تزخر به الروايات من تفاصيله.
  • وأما الثانية، فهي قوله تعالى: ﴿ٱقترَبَتِ ٱلسَّاعَةُ وَٱنشَقَّ ٱلقَمَرُ﴾. والتي قد يُفهم منها أنّها تشير إلى معجزةٍ حسية.

إذن، لا نجد في كتاب الله أي معجزاتٍ للنبي ﷺ سوى هاتين الآيتين، لكن الإسراء، وإن كان خارقًا للعادة، فليس معجزةً بمفهومها الاصطلاحي، إذ لم يكن الهدف منها إقامة الحجة على القوم، بل كما قال الله: ﴿لِنُرِیَهُ مِن آیاتنَا﴾، أي أنّ المقصود منها أن يُريَ اللهُ نبيّه من آياته الكبرى، لا أن تكون برهانًا للمشركين ولا حجةً على المعاندين. ولله أن يُكرم نبيّه بما شاء، وأن يريه من عجائب ملكوته ما شاء، لكن هذا شأنٌ بين النبي الكريم وربه، لا يُعدّ معجزةً يُتحدَّى بها الناس ولا دليلًا على نبوته، ولا معجزة بالمعنى الاصطلاحي لها.

وإذا استثنينا الإسراء، لم يبقَ أمام الناظر في القرآن سوى آيةٍ واحدة، هي: ﴿اقتربَت الساعةُ وانشقَّ القمر﴾، وهنا يكون موضع البحث، فهل كانت هذه حقًّا معجزةً حسيةً جرت على يدي النبي ﷺ؟ أم أنّ الأمر كان شيئًا آخر؟ هذا ما سيكون الحديث عنه في هذا المقال بالتفصيل المُملّ.

******

﴿اقتربَت الساعةُ وانشقَّ القمر﴾

لقائلٍ أن يقول: كيف، مع هذه الآيات جميعًا التي تؤكد امتناع وقوع المعجزات الحسية، استطاع المفسرون أن يقولوا بوقوع المعجزات للنبي الكريم ﷺ؟ وكيف أمكنهم التوفيق بين آياتٍ تنفي وقوع المعجزات، وبين رواياتٍ تزخر وتمتلئ بالخوارق والكرامات؟ بل كيف تسنّى لهم تجاوز هذا التناقض الصارخ، والجمع بين الأقوال المتعارضة التي لا يكاد يجمعها منطق ولا يربطها رابط؟ كيف يمكن أن يقول الله في كتابه: ﴿وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيات إِلَّآ أَن كَذَّبَ بِهَا الأوَّلُونَ﴾ ثم يأتي العلماء بعد ذلك ليقبلوا انشقاق القمر، وحنين الجذع، وتكثير الطعام، وخروج الماء من بين أصابع النبي ﷺ، وهلم جرًّا من معجزاتٍ لا تنتهي؟!

لقد أدرك المفسرون هذا التناقض بين نصّ القرآن وبين الروايات التي تزخر بها كتب الحديث، فكان لا بدّ لهم من حلٍّ يُزيل التعارض، ويُسَوّغ الجمع بين المتناقضات. وكان الحلّ الذي لجؤوا إليه هو تخصيص الآية وتحريف معناها لتتوافق مع الروايات، فقالوا: لم يكن اللهُ ليمنع من وقوع جميع المعجزات، وإنما كان المنع مقصورًا على بعضٍ منها فقط دون غيرها. فأوّلوا قوله تعالى ﴿بـالآيات﴾ بأن الألف واللام في الكلمة ليست للجنس، بل هي للعهد، أي أنّ المقصود هو بعض الآيات، لا جميعها.

وقالوا إن المعجزات التي منعها الله ليست كل أنواع المعجزات، بل هي فقط تلك المعجزات التي طلبها المشركون بألسنتهم، كقول المشركين ﴿لَن نُّؤمِنَ لَكَ حَتَّى تَفجُرَ لَنَا مِنَ الأرض ينبوعًا * أَو تَكُونَ لَكَ جَنَّة مِّن نخيل وَعِنَب فَتُفَجِّرَ الأنهار خِلالَهَا تفجيرًا * أَو تُسقِطَ السماء كَمَا زَعَمتَ علينا كِسَفًا أَو تَأتِي بالله والملائكة قبيلًا * أَو يكون لَكَ بَیت مِّن زُخرُفٍ أَو تَرقَى فِي السماء…﴾ ، أمّا ما عداها من المعجزات التي لم يطلبوها ولا يسموها ولم يحددوها، فإنّ الله لم يمنعها، ولم ينفِ وقوعها، بل أجراها على يد النبي ﷺ، فصار عندهم الامتناع جزئيًّا، لا كليًّا، وأصبح للمعجزات بابٌ مفتوحٌ، لا يُغلق إلا أمام ما عيّنه المشركون، وأما سائر الخوارق، فطريقها ممهد، لا يحول بينها وبين القبول شيء.

غير أنَّ السؤالَ ما زالَ قائمًا، والاستشكالُ لم يُدفع: وما الضيرُ في أنْ يطلبَ المشركون آيةً، فيختاروا بأنفسِهم معجزتَهم، فيستجيبَ اللهُ لهم بما سألوا، ويأتيهم بآيةٍ من عنده تُلجمُ أفواهَهم، وتُقيمُ عليهم الحجَّةَ ببرهانٍ لا يُدحَض؟ أوَلم يكن هذا عينَ ما وقعَ مع الحواريِّينَ، إذ قالوا لعيسى عليه السلام: ﴿هل يستطيعُ ربُّك أن يُنزِّل علينا مائدةً من السماء؟﴾، فلم يَعنِّفهم اللهُ على سؤالِهم، ولم يُوبِّخْهم على طلبِهم، بل أجابَهم إلى ما أرادوا، وأجرى لهم الآيةَ كما تمنَّوا، فما بالُ قريشٍ تُحرَمُ ما أُعطِيَ غيرُها، ويُمنَعُ عنها ما أُجيبت إليه الأممُ من قبلُ؟

وقد ذهبَ المفسرون إلى أنَّ في ذلك سُنَّةً ماضية، وحكمةً قاضية، وهي أنَّ القومَ لو سألوا آياتِ بعينِها، ثم أُتُوا بها، فلم يؤمنوا بها بعد أن عاينوها، فقد حلَّ بهم عذاب الاستئصال وهو الهلاكُ الذي لا يُبقي ولا يذر، كما وقعَ للأممِ الأولى، حين جاءهم الأنبياءُ بالبيناتِ، فاستكبروا، فأنزل اللهُ عليهم بأسَه الذي لا يُرد. ولكنَّ اللهَ إذ أرسلَ محمّدًا ﷺ رحمةً للعالمين، فقد قضى أن لا يُنزِلَ بقومِه عذابَ الاستئصال، كما أنزلَه بغيرِهم، وأن يُرفَعَ عنهم الهلاكُ العامُّ إكرامًا لنبيِّهم، فلا يحلُّ بهم ما حلَّ بعادٍ وثمودَ وقومِ لوط.

غير أنَّ في هذا القولِ نظرًا، وفي هذا التأويلِ مواضعَ من الإشكالِ لا تخفى.

  • أولُها: أنَّ النصَّ القرآنيَّ قد قرَّر سنَّةَ الله في إهلاكِ القرى، فقال سبحانه: ﴿وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا، وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ﴾. وهذه الآيةُ تُخبرُ بوضوحٍ أنَّ العذابَ يحلُّ إذا أُرسِل الرسولُ، وجاء بالآيات، فكذَّبوه، وأعرضوا عن دعوته. ولم تُعلِّق الهلاكَ على أنْ يطلبوا آيةً مخصوصةً، فيُجابوا إليها، ثم يُعرِضوا عنها. بل جعلت العبرةَ في تكذيبِ الرسولِ وما معه من البيِّناتِ، لا في شكلِ المعجزةِ التي يُنزِلُها الله.
  • وثانيها: أنَّ اللهَ قد قال: ﴿وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا﴾، ولم يقل: «وما كنا معذبين حتى نبعث رسولًا، فيأتيَ بالآيات، فيكفر بها القوم، ثم يطلبوا آيةً بعينِها، فنُنزِلها لهم، فيكفروا بها، فحينها يستحقون العذاب». ولو كان هذا التفصيلُ شرطًا في استحقاقِ العذاب، لَوردَ في النصِّ، لكنه لم يُذكَر، ممَّا يدلُّ على أنَّ العذابَ لا يتوقَّفُ على طلبِ الآيات، بل يكفي في استحقاقِه أن يُكذِّبَ القومُ الرسولَ فيما أتى به من المعجزات.
  • وثالثها: أنَّ النبيَّ ﷺ إذا كان رحمةً للعالمين، فذلك يقتضي أن يكون قومُه قد استحقوا العذابَ، ثم رُفع عنهم لأجله ﷺ، فيصحُّ عندئذٍ أن يُقالَ إنَّ اللهَ رحمَهم به، وأجَّل عنهم الهلاكَ إكرامًا له. أمَّا إذا كانوا أصلًا لم يقعوا فيما يُوجبُ العذاب، ولم يكونوا ممَّن حلَّت بهم سُنَّةُ الله الماضية، فكيف يُقالُ إنَّ النبيَّ كان رحمةً لهم؟! فالرأفةُ إنما تكونُ برفعِ العذابِ بعد استحقاقِه، لا بمنعِ العذابِ عن قومٍ لا يستحقون العذاب ولم يقعوا فيما يوجبه.
    وإذا تدبَّرنا هذا كلَّه، ظهرَ أنَّ القولَ بأنَّ اللهَ منعَ المشركينَ من المعجزاتِ التي طلبوها رحمةً بهم، ليس بتأويلٍ مستقيم، بل الأَوْلَى – إنْ قيلَ إنَّ النبيَّ كان رحمةً لهم – أنْ تكونَ الرحمةُ برفعِ العذابِ بعد استحقاقِه، لا بأنْ تُمنَعَ عنهم الآياتُ، فالنبي رحمةٌ لأنه منع عنهم العذاب وليس لأنه منع عنهم المعجزات.
  • رابعًا: إذا كان مناطُ الأمر عند المفسرين هو أنَّ المشركين لو طلبوا آيةً بعينها، ثم جاءتهم، ثم كفروا بها، لاستحقوا العذاب، فلماذا – إذن – حين تراجعوا عن التحديد، وأعرضوا عن تعيين نوع المعجزة، واكتفوا بطلب أيِّ آيةٍ على الإطلاق، لم يُستجب لهم؟ فقد جاء عنهم في القرآن: ﴿وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا﴾، فها هم لم يشترطوا نوعًا بعينه، ولم يُقيِّدوا الطلبَ بمعجزةٍ مخصوصة، بل جعلوه مطلقًا، ومع ذلك لم يأتهم الله بآية، فأين هو التأويل القائل بأن العذابَ لا يحلُّ إلا إذا عُيِّنت المعجزةُ ثم كُفر بها؟!

ولعلَّ القارئ، بعد هذه المقدمةِ الطويلة، قد تاقت نفسُه إلى الحديث عن الآيةِ الكريمةِ ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾، وهي الآيةُ التي طالَ فيها القولُ، وكثرَ فيها الجدلُ، وتعدَّدت فيها التفسيراتُ.

أما التفسيرُ المشهورُ، فهو أنَّ القمرَ قد انشقَّ بالفعلِ في زمن النبيِّ ﷺ، وأنَّ الصحابةَ والمشركينَ قد رأوهُ رأيَ العين، فلمَّا بَدتْ لهم هذه الآيةُ العظيمةُ، لم يجدوا لها تأويلًا إلا أنْ قالوا: «سَحَرَنا محمَّدٌ!» غير أنَّهم لم يلبثوا أنْ استدركوا بأنَّ السحرَ لا يطالُ الناسَ جميعًا، ولا يعمُّ البعيدَ والقريبَ، ولا يشملُ مَن غابَ عن المدينةِ ولم يشهد المشهدَ، فسألوا القوافلَ التي كانت قادمةً إلى مكةَ من أسفارِها، فقالت القوافلُ: «نعم، رأيناهُ كما رأيتموه!».

إلا أنَّ هذا التفسيرَ – وإنْ كان هو الأشهرَ والأوسعَ انتشارًا – ليسَ هو التفسيرَ الوحيدَ للآيةِ، بل إنه – عند التأملِ والتدقيقِ – أضعفُ هذه التفسيراتِ وأوهاها على الإطلاقِ، فإنَّ للنصِّ ظاهرًا أدقَّ، وللغةِ إشاراتٍ أوضحَ، وللسياقِ القرآنيِّ دلالةً أعمقَ، تَجعلُ من هذا التأويلِ أضعفَ الاحتمالاتِ وأبعدَها عن العقلِ والنقلِ، فلهذه الآية خمسة تفسيرات ذكرها الماوردي في تفسيره: 

﴿وَانشَقَّ القَمَرُ فيه ثلاثة أقاويل:

  1. أحدها : معناه وضح الأمر وظهر، والعرب تضرب بالقمر مثلاً فيما وضح أمره، قال الشاعر
    أقيموا بني أمي صدور مطيكم  …  فإني إلى قوم سواكم لأمْيَلُ
    فقد حمّت الحاجات والليل مقمر  …  وشُدَّتْ لطياتٍ مطايا وأرحلُ
  2. والثاني: أن انشقاق القمر هو انشقاق الظلمة عنه بطلوعه في أثنائها كما يسمى الصبح فلقًا لانفلاق الظلمة عنه، وقد يعبر عن انفلاقه بانشقاقه، كما قال النابغة الجعدي:
    فلما أدبروا ولهم دوي  …  دعانا عند شق الصبح داعي
  3. الثالث: أنه انشقاق القمر على حقيقة انشقاقه.
    وفيه على هذا التأويل قولان:
  4. أحدهما: أنه ينشق بعد مجيء الساعة وهي النفخة الثانية، قاله الحسن، قال: لأنه لو انشق ما بقي أحد إلا رآه لأنها آية والناس في الآيات سواء.
  5. الثاني: وهو قول الجمهور وظاهر التنزيل أن القمر انشق على عهد رسول اللهﷺ.16

وقد ذكر الإمام الماتريدي في تفسيره ما قاله شيخنا أبو بكر الأصم، أحد أشهر العلماء والمفسرين في تاريخ المسلمين في تفسيره لهذه الآية: 

قوله تعالى: ﴿اقتربَت الساعةُ وانشقَّ القمر﴾ قال بعضهم: أي اقتربت الساعة، واقترب انشقاق القمر، وقيل: على التقديم والتأخير: اقتربت الساعة، وإن يروا آية يُعرضوا، وإن كان انشقاق القمر. فعلى هذين التأويلين لم يكن انشقاق القمر بعد، ولكنْ يكون في المستقبل وعند قيام الساعة، وهو قول أبي بكر الأصمّ، معنى قوله: ﴿وانشق القمر﴾ أي سينشقّ القمر عند الساعة؛ إذ لو كان قد انشق في زمن النبي صلى الله عليه لما خفِيَ على أهل الآفاق، ولو كان ظاهرًا عندهم لتواتر القول به، إذ هو أمر عجيب، والطباع جُبِلت على نشر العجائب.17

ومن المعاصرين الذين أنكروا في تفسيرهم انشقاق القمر شيخ الأزهر الشيخ محمد مصطفى المراغي إذ كتب يقول:

﴿وانشق القمر﴾: أي وسينشق القمر، وينفصل بعضه من بعض حين يختل نظام هذا العالم وتبدل الأرض غير الأرض، ونحو هذا قوله: ﴿إذا السماء انشقت﴾، وقوله: ﴿إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت﴾، وكثير غيرهما من الآيات الدالة على الأحداث الكبرى التي تكون حين خراب هذا العالم وقرب قيام الساعة.18

ولعلَّ من أبدعِ ما وقفتُ عليه في هذا الباب، مما رَنَّ في أذني كالنَّغم العذبِ، وأطربَ فكري بحسن سبكهِ، ما قاله أبو القاسم الأنصاري إذ كتبَ: «وقد أنكر النظّام والجاحظ وجماعة من شيوخ القدرية انشقاق القمر، وقالوا: معناه: سينشق، كقوله تعالى: ﴿أَتَىٰٓ ‌أَمرُ ‌ٱللَّه، معناه: سيأتي».19

فلما قرأتُ ذلك، استوقفني المعنى، وقلتُ في نفسي: رَضي اللهُ عن إمامَينا النظّام والجاحظ، وعن شيوخِنا من القدريَّة! أبصروا ما أغفل عنه غيرُهم، وأدركوا مواطن الإشكالِ فتكلَّموا فيها، وأعملوا عقولَهم حيثُ تهيَّبَ الناسُ النقدَ، وخشيت الألسنةُ التصريحَ، وساد الخوفُ من التهمِ الجاهزةِ بالتكفيرِ والابتداع. إنهم لم ينحنوا أمامَ سطوةِ التقليدِ، ولم يُسلِّموا للنقلِ دون تدبُّرٍ، بل تفكَّروا وتدبَّروا، وجعلوا من العقلِ حَكمًا، في زمانٍ كان الجمودُ فيه لباسًا، والتقليدُ دثارًا، والخشيةُ من النقدِ حاجزًا بين الفكرِ وبين مسالكِ التأمُّلِ الحرّ. وكم نحنُ بحاجةٍ اليومَ إلى مثلِ هذه العقولِ الجريئةِ التي لا تُرهِبُها سُلطَةُ الاتهام، ولا تُقعِدُها رهبةُ التشنيع، فتُمحِّصُ القولَ، وتَزِنُه بميزانِ العقلِ والدليل!

في كتابه «تأويل مختلف الحديث»، نقل ابن قتيبة اعتراضاتِ إبراهيم النظام على كثيرٍ من الروايات، وكان مما أنكرهُ ورفضَ تصديقهُ رواية انشقاق القمر التي وردت عن عبد الله بن مسعود. وقد ساق النظامُ حجَّته في ذلك بعبارةٍ صارخةٍ في وضوحها، قاطعةٍ في اعتراضها، إذ قال:

قال [إبراهيمُ النظام]: وزعم [ابنُ مسعودٍ] أنَّ القمرَ انشقَّ، وأنه رآهُ، وهذا من الكذب الذي لا خفاء به؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يشقُّ القمرَ له وحدَه، ولا لآخرَ معه، وإنما يشقه ليكونَ آيةً للعالمين، وحُجَّةً للمرسلين، ومَزْجَرةً للعباد، وبُرهانًا في جميع البلاد. فكيف لم تعرف بذلك العامةُ، ولم يُؤرِّخ الناسُ بذلك العام، ولم يذكره شاعرٌ، ولم يُسلم عنده كافرٌ، ولم يحتج به مسلمٌ على ملحد؟20

لم يكن تعليق ابن قتيبة أن أتى بالروايات الكثيرات التي تثبت أن أحدًا آخر غير عبد الله بن مسعود رأى القمر منشقًا، وإنما كان جواب ابن قتيبة ورده على إبراهيم النظام أن قال:

وهذا ليس بإكذابٍ لابن مسعود، ولكنه بخسٌ لعلم النبوة وإكذابٌ للقرآن العظيم؛ لأن اللهَ تعالى يقول: ﴿اقتربت الساعة وانشق القمر. فإن كان القمر لم ينشق في ذلك الوقت، وكان مراده: سينشق القمر فيما بعد، فما معنى قوله: ﴿وإن يروا آيةً يُعرضوا ويقولوا سحرٌ مستمر بعقب هذا الكلام؟ أليس فيه دليل على أن قومًا رأوه منشقًا فقالوا: «هذا سحرٌ مستمرٌ من سحره، وحيلةٌ من حيله». كما قد كانوا يقولون في غير ذلك من أعلامه ﷺ؟

وكيف صارت الآيةُ من آيات النبي ﷺ والعَلَمُ من أعلامِه لا يجوز عنده أن يراها الواحدُ والاثنان والنفر دون الجميع. أوليس قد يجوز أن يخبرَ الواحدُ والاثنان والنفرُ والجميعُ، كما أخبر مكلِّمُ الذئب، بأن ذئبًا كلَّمه، وأخبر آخرُ بأن بعيرًا شكا إليه، وأخبر آخرُ أنَّ مقبورًا لفظته الأرض؟21

في النقلِ السابقِ، كان ردُّ ابن قتيبة على إبراهيم النظام أنَّه لا يقتصرُ على تكذيبِ عبد الله بن مسعود فحسب، بل يُكذِّبُ القرآنَ الكريمَ نفسَه، إذ يرى ابنُ قتيبة أنَّ الآيةَ ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانشَقَّ الْقَمَرُ﴾ دليلٌ قاطعٌ على وقوعِ انشقاقِ القمر بالفعل، وأنَّ تأويل النظام لها بمعنى «سينشقُّ القمر فيما بعد» تأويلٌ فاسد، لا يستقيمُ مع سياقِ الآية، بدليلِ ما جاء بعدها: ﴿وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ فجعلها ابن قتيبة برهانًا على أنَّ القومَ قد رأوا الآية حقًّا، وأعرضوا عنها، وقالوا إنها سحر مستمر، معتبرًا أنَّ ذلك نصٌّ صريحٌ في تحققِ وقوع انشقاق القمر، وتحقق إنكارهم لهذه المعجزة كذلك.

لكن، هل قوله تعالى: ﴿وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ معناه أنهم رأوا آيةً بالفعل، وأعرضوا عنها بالفعل، وقالوا بالفعل: هذا سحر مستمر؟ إنَّ القرآن الكريم لم يقل «قد رأوا آية»، بل استخدمت «إن» الشرطية، التي تفيد الاحتمال والتقدير، لا الحدوث والوقوع. ولعل أفضل ما يجيب عن هذا الاعتراض هو ابن قتيبة نفسه، فدعونا نجعل ابن قتيبة يرد على نفسه ويجيب هو على نفسه، فأيّ بيانٍ أفصحُ وأيُّ دحضٍ أبلغُ من أن يتكفَّل صاحبُ التأويلِ بنقض تأويله، فيردَّ على نفسه بلسانه، ويهدمَ حجَّته بحُجَّةٍ أقوى منها، حتى يغدو كلامُه أبلغَ حُجَّةٍ عليه من ردود خصومه؟!

يقول ابن قتيبة في كتابه «غريب القرآن»، وفي تفسيره لقوله تعالى: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ﴾:

﴿سَحابٌ مَرْكُومٌ﴾ أي ركام: بعضه على بعض. والمعنى انهم قالوا للنبي : إنا لا نؤمن لك حتى تُسقط السماء علينا كسفًا، فقال الله: لو أسقطنا عليهم ‌كسفًا ‌من ‌السماء، قالوا: هذا سحاب مركوم، ولم يؤمنوا.22

فانظر بالله عليك إلى هذا التناقض الواضح، والميل العجيب! تخيَّل نفس الصياغة اللغوية، بنفس التركيب، في نفس الموضوع عن المعجزات، ونفس تعلق المعجزة بالسماء، وعن نفس المشركين، وعن نفس رد فعلهم في أقوالهم، ومع نفس النبي، وفي نفس السياق، وبنفس الأسلوب، وحين تكون الآية: ﴿وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ يقول ابن قتيبة أنهم رأوا آية بالفعل، وقالوا سحر مستمر بالفعل. وحين تكون الآية: ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ﴾ يقول ابن قتيبة إن هذا لم يحدث، ولم يقع، ولم يقولوا سحاب مركوم! وهكذا، لو تجرَّد ابن قتيبة من تحامله على إمامنا النَظَّام، وعاد إلى منطقه في تفسيره الآخر، لأبطل بنفسه حجَّتَه، ونقض بيمينه ما بناه بشماله.

وللتلخيص أقول: إن القرآن الكريم مليئ عن آخره بالآيات التي تتحدث عن رفض إرسال معجزات حسية للمشركين، وأن المعجزة الواحدة الباقية هي القرآن نفسه، وإن كان هناك إشارة إلى معجزات حسية، فليس فيه إلا آيتنين، الأولى الإسراء، والثانية انشقاق القمر، وأوضحنا أن الإسراء ليست معجزة للنبي ولا آية له، بل هي خرق للعادة أجراه الله لنبيه ليرى النبيُّ من آيات الله الكبرى، لا لتكون حجةً على الكافرين ودليلًا على النبوة. (هذا بتسليم أنها ليست رؤيا منام).

أما الآية الثانية فهي آية انشقاق القمر، وأوضحتُ أن هذه الآية لها تفسيرات خمس، منها أنها لا تتحدث عن القمر بالأساس، وإنما هو تشبيه بلاغي تستخدمه العرب للشيء الواضح والظاهر (ذكره الراغب الأصفهاني،23 وذكره الماوردي). ولو اعتبرنا أنها ليست مجازًا عن الوضوح والظهور، بل حقيقة في انشقاق القمر، فليس معناها إنه وقع بالفعل، بل المقصود إنه مقرون باقتراب الساعة ليكون من علاماتها، وهذا قول عطاء الخراساني،24 والحسن البصري، وإبراهيم النظَّام، والجاحظ، وأبو بكر الأصم، والقاسم الكعبي البلخي، وجماعة من شيوخنا من القدرية، والشيخ محمد رشيد رضا، وشيخ الأزهر محمد مصطفى المراغي. ولو سلّمنا أن انشقاق القمر حدث بالفعل في زمن النبي، فليس بالضرورة أن يكون آية له وحجة له لإثبات رسالته؛ إذ أن الإثبات الوحيد لرسالته هو القرآن، ولهذا رفض سيد قطب أن يكون انشقاقُ القمر معجزةً جاءت بعد طلب المشركين آيةً من النبي دليلًا على صدق رسالته فقال:

القول بأن انشقاق القمر كان استجابةً لطلب المشركين آية – أي خارقة – يبدو بعيدًا عن مفهوم النصوص القرآنية؛ وعن اتجاه هذه الرسالة الأخيرة إلى مخاطبة القلب البشري بالقرآن وحده، وما فيه من إعجاز ظاهر؛ ثم توجيه هذا القلب – عن طريق القرآن – إلى آيات الله القائمة في الأنفس والآفاق، وفي أحداث التاريخ سواء.. فأما ما وقع فعلًا للرسول من خوارق شهدت بها رواياتٌ صحيحةٌ فكان إكرامًا من الله لعبده، لا دليلًا لإثبات رسالته.25

ولو قال قائل: ما بال الآية التي بعدها تقول: ﴿وَإِن يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ﴾ قلنا: لا تدل على شيء، فقد قال الله قبلها بصفحتين اثنتين فقط في سورة الطور، ﴿وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ ﴾، ولم يقل أحدٌ من العالمين إنَّ قريشًا قد أصابها كسف من السماء وأنهم قالوا سحاب مركوم.

******

شاهد ما شافش حاجة

ذكرنا كلام النظَّام واعتراضَه بأن هذه معجزة لم تعرف بها العامةُ، ولم يُؤرِّخ الناسُ بذلك العام، ولم يذكرها شاعرٌ، ولم يُسلم عندها كافرٌ، ولم يحتج بها مسلمٌ على ملحد، وأن الوحيد الذي رآها من المسلمين هو عبد الله بن مسعود، وقال النظام إن هذا من الكذب الذي لا خفاء به؛ لأنَّ اللهَ تعالى لا يشقُّ القمرَ له وحدَه، ولا لآخرَ معه، وإنما يشقه ليكونَ آيةً للعالمين، وحُجَّةً للمرسلين، ومَزْجَرةً للعباد، وبُرهانًا في جميع البلاد. وكان جواب ابن قتيبة إنه لا إشكال أن يروي واحدٌ أو أفراد معجزة عظيمة! وهذا جواب سفيه لا يلتفت إليه؛ إذ أنَّ اللهَ أمرنا أن نستشهد شاهدين حين يتداين أحدُنا من الآخر، فما بال العشرة دنانير يُطلب فيها شاهدان، وتلك المعجزةُ العظيمةُ لا يشهدها إلا واحد؟ ومال بال الواحد منا إن أراد أن يخطب فتاةً وحتى لو لم يقم حفل للخطبة، فعلى الأقل يأتي بأهله وأهلها وأصدقائهما المقربين، فما بال الواحد منا يأتي في خطبته (على الضيّق) بعشرة أشخاص على الأقل، وهذه المعجزة لا يراها إلا واحد؟ إن هذه المعجزة لا ترقى حتى أن تكون معجزة (على الضيّق).

ثانيًا: سلمنا كلام المفسرين، بأن مقصود الله في قوله ﴿وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون﴾، وأن الآيات هاهنا هي الآيات المحددة التي طلبوها، لكن هذا ليس منعًا لباقي الآيات التي لم يطلبوها، وعلى الرغم من أن هناك روايات وأخبار تقول إن المشركين طلبوا انشقاق القمر،26 وبالتالي حتى هذه لا تستقيم على تفسيرهم؛ لأن المشركين طلبوا هذه الآية وحددوها وعينوها. لكن على التسليم بأن تلك الرواية ضعيفة ولا تصح، فماذا كانت فائدة انشقاق القمر؟ إذا منع الله إرسال الآيات التي حددوها لأن السابقين كفروا وكذبوا، فما بالهم يجعلون الله يرسل للمشركين آيةً، ثم يكفرون بها ويكذبون ويقولون سحر مستمر؟

وفق كلامهم فإن الله منع إرسال الآيات المخصوصة التي اختاروها لأن الأولين كذّبوا، فحين أرسلَ آياتٍ أخرى غير التي اختاروا، جاء المتأخرين وكذّبوا بها أيضًا وقالوا سحرٌ مستمر! والسؤال: أهذه أفعال تصح أن ينسبوها لإلهٍ حكيم؟

ثالثًا: قد نُسِبت روايةُ هذا الحديث إلى ستةٍ من الصحابة، وهم: 1. أنسُ بن مالكٍ، 2. وعبدُ اللهِ بن عباسٍ، 3. وعبدُ اللهِ بن مسعودٍ، 4. وجُبيرُ بن مُطعمٍ، 5. وحُذيفةُ بنُ اليمانِ، 6. وعبدُ اللهِ بنُ عمرَ رضي اللهُ عنهم أجمعين.

  1. أمّا أنسُ بن مالكٍ، فقد كان في ذلك الوقت طفلًا صغيرًا غضَّ الإهاب، لا يُميِّز الحادثةَ ولا يَعقل معناها، إذ لم يكن له من العمر يومئذٍ إلا خمسُ سنينَ أو دونها، والأشدُّ من ذلك أنّه لم يكُن في مكةَ حين جرى هذا الأمرُ المُدَّعى، بل كان مستقرُّهُ في المدينةِ، ولم يرَ النبيَّ ﷺ إلا بعد الهجرةِ. فكيف يستقيمُ في عقلٍ، أو يثبُتُ في منطقٍ، أن يكون الغائبُ عن الحدث شاهدًا له، أو يكونَ طفلُ المدينةِ شاهدًا لما جرى في مكَّة؟
  2. وأمّا عبدُ اللهِ بنُ عبَّاسٍ، فلم يكُنْ حين الحادثةِ شيئًا مذكورًا، بل لم يكن يومَها جنينًا في بطن أمه، ولا روحًا قد نفخت فيه الملائكةُ، ولم يخرج إلى نورِ الدنيا إلا بعدَ خمس سنينَ من الواقعةِ على أصحِّ ما ذُكر، أو بعد عامينِ في القول الأضعف. فهل من المعقولِ أن يشهدَ أو يرويَ من لم يُولدْ بعد، أو أن يكونَ راويةَ الخبرِ وهو لم يأت إلى الوجودِ أصلًا؟
  3. وأمّا عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ، فهو الصحابيُّ الوحيدُ الذي أظهر بلسانِه شهادةً، وأعلن بعينِه رؤيةً، وتفرَّد بذلك دون سائرِ البشرِ أجمعين.
  4. وأمّا جُبيرُ بنُ مُطعمٍ، فكان يومَئذٍ على الشركِ، لم يدخل في الإسلامِ إلا بعد فتح مكّة، ولم يروِ أنه شاهدَ الحادثةَ بعينِه، ولا زعمَ أنّه كان حاضرًا لها، وإنما روايتُه من بابِ المراسيلِ دونَ تثبُّتٍ أو تأكيدٍ.
  5. وأمّا حُذيفةُ بنُ اليمانِ، فلم يزعم يومًا أنّه حضر الواقعة، ولا ادَّعى رؤيةً ولا شهادةً، بل لم يذهب إلى مكة ولم ير الرسولَ قبل الهجرة قط، فبأيِّ منطقٍ تُقبَلُ روايتُهُ في أمرٍ لم يَشهدهُ ولم يحضرهُ؟
  6. وأمّا عبدُ اللهِ بنُ عمرَ، فكان طفلًا صغيرًا لم يبلُغْ الحُلمَ بعد، ولم يَرِدْ عنهُ أنّه رأى أو شهد شيئًا، فكيف يُقبَلُ قولُ من لم يَبْلُغ من عُمرِه مبلغَ التمييز، ولم يبلغ من عقله مبلغَ الإدراك؟

فهؤلاءِ هم الصحابةُ الستةُ الذين نُسِبت إليهم روايةُ الحديث، فأحدُهم لم يكُن قد وُلد بعدُ، وآخرُ كان طفلًا صغيرًا لا يُميِّزُ، وثالثٌ كان غائبًا في مدينةٍ أخرى، ومن بقيَ منهم لم يحضُر ولم يُشاهِد أصلًا، وإنما نُقِلت عنهم الروايةُ نقلًا مُرسلًا لا يُعتَدُّ به في باب الشهادات. ولم يبقَ إلا عبدُ اللهِ بنُ مسعودٍ وحده الذي صرّح بالمشاهدةِ وادّعى الرؤيةَ. ثمَّ يأتي بعد ذلك المحدِّثون، فيزعمونَ بلا خجلٍ، ويقولونَ بلا حياءٍ، إنَّ هذه الروايةَ مُتواترةٌ، وهي التي انفردَ بشهودِها رجلٌ واحدٌ لا غير، ويُؤكِّدونَ قولَ طفلٍ صغيرٍ وغائبٍ بعيدٍ وجنينٍ لم يُولد بعد، فيجعلونها خبرًا كخبرِ مَن رأى وسمع وشهِدَ يقينًا لا شكَّ فيه. وليس في ذلك عجبٌ، ولا دهشةٌ؛ فإنَّ العقولَ إذا صدِئَتْ زاغتْ، وإذا تعصَّبتْ كذبتْ، وإذا ضلَّتْ ضلَّلتْ، وإذا قصُرتْ هَوَّلتْ، فما زال الناسُ منذ قديمِ الأزلِ يُبالغونَ في الرواياتِ، ويخلطونَ في الأخبارِ، حتى تختلطَ الحقائقُ بالأوهامِ، وتضيعَ الأمانةُ بين أصحابِها.

وحتى روايةُ ابنِ مسعودٍ هذه التي بقيتْ وحيدةً يتيمةً، لم تسلَم هي الأخرى من التخبُّطِ والتناقضِ والتعارضِ الصارخِ، فتارةً يروى أن ابن مسعود قال إن القمرَ انشقَّ مرةً واحدةً، وتارة آخرى يُروى أنه قال بل انشق مرتينِ.27 ومرة يُروى أنه قال إننا رأيناهُ في مكةَ،28 وأخرى يروى فيها قوله: بل رأيناه في مِنًى،29 وحينًا يُزعم أنّه شاهد انشقاقه خلف جبل النور،30 وحينًا أخر يروى أنه قال: لا بل خلفِ جبلِ أبي قُبيس، ومرة ثالثة يُقال أنه رآه بين جبل أبي قبيس وجبل السويدا.31 مع أنّ المسافةَ بين هذا الجبلِ وبين مِنًى تزيدُ على أحدَ عشرَ كيلومترًا، وهي مسافةٌ تجعلُ من رؤيةِ القمرِ من ذلك الموضع أمرًا عسيرًا، بل يكاد يكون من المُحال؛ ذلك أنه في شمال مكة، ومِنىً في شرقها، وبينهما من الجبال الكثير! فكيف يُقبَلُ خبرٌ هذا شأنُه، وتُعتَمدُ روايةٌ هذا مبلغُ اضطرابها؟

بل حتى المحدِّثون أنفسُهم، أولئك الذين يزعمون بلا حياءٍ ولا تحرُّجٍ أن الروايةَ مُتواترةٌ قاطعةُ الثبوتِ، لا يلبثون أن يأتوا بالمعاذيرِ الواهيةِ التي تُسقِطُ روايتَهم من أوّلِها إلى آخرِها، فهم يقولون في تبريرِ عدمِ شُهرتها وانتشارِها: إنما حدثَ انشقاقُ القمرِ في ظلمةِ الليلِ والناسُ نيامٌ، وحين يُقالُ لهم: فكيفَ لم ينقلْ هذا الخبرَ العظيمَ غيرُكم من الأممِ والشعوبِ؟ أجابوا في استحياءٍ واضطرابٍ: لعلَّ اللهَ تعالى صنعَ معجزةً أخرى، فأعمى أبصارَ الناسِ وأبصارَ الأممِ الأخرى، حتى لا يَرَوا هذه الآيةَ البيِّنةَ!

فباللهِ عليكم قولوا لنا: أهذا خبرٌ متواترٌ رآه الجمعُ الغفيرُ وشهدَهُ الناسُ كما تزعمون؟ أم هو خبرٌ ضعيفٌ متهافتٌ متناقضٌ، لم يُشاهده أحدٌ ولم ينقُله أحدٌ؛ لأن الناسَ كانوا في مَنامهم غارقين، أو لأن الأبصارَ كانت مُعمَاةً، فلم ترَ شيئًا مما تدّعون؟!

******

الشواهد التاريخية على انشقاق القمر

ولقد شاعَ في هذه الأيام كلامٌ كثيرٌ عن الشواهد التاريخية لمعجزة «انشقاق القمر»، ورأينا قومًا لا يفتؤون يردّدون أنّ لهذه الواقعةِ أثرًا في كتبِ الأممِ السابقةِ، وأنّ شعوبًا غيرَ العربِ قد شهدَت هذه الظاهرةَ وأثبتتْها في دفاترها وسجلاتها، بل زعموا — ولا أعجبَ ممّا زعموا — أنّ هذه الأممَ لم تكتفِ بالتدوينِ والتسجيلِ، حتى غيّرتْ تقويمَ أيّامِها، وعدَّلتْ حسابَ شهورها، إذ لم يَروا في سابقِ الزمانِ ولا لاحقِهِ مثلَ تلك الأعجوبةِ العجيبةِ!

وسوف أبسطُ لك في هذا الفصلِ كلَّ ما زعموهُ، وأتناولُ كلَّ دليلٍ ساقوهُ، وأستعرضُ المقالَ الذي أكثروا الإحالةَ إليه، فأضعُ بين يديك تحليلًا دقيقًا لا يدعُ لفظةً تمرُّ دونَ بيانٍ، ولا عبارةً تعبرُ دون توضيحٍ وتفنيدٍ، حتى يكونَ الأمرُ جليًّا للقارئِ واضحًا، ويظهرَ الحقُّ منه ظهورَ النهارِ لمن طلبه.

وإنّي لأعترفُ أني تردَّدتُ في أمري زمنًا، إذ رأيتُ ما أتوا به من الحججِ والمصادرِ أوهى من خيوطِ العنكبوتِ، وأسخفَ من أن يُوقَفَ عندها أو يُلتفتَ إليها، وتساءلتُ في نفسي: أمِثلُ هذه الأباطيلِ ينبغي لعاقلٍ أن يُجهدَ قلمهُ في ردِّها، أو يطيلَ الوقوفَ عندَ تهافُتها؟ فإنّ القارئَ اللبيبَ سرعانَ ما يرى بنفسِهِ أنّها مصادرُ هشَّةٌ ركيكة، وكلامٌ متهافتٌ لا يستقيمُ في عقلٍ ولا يقبلهُ منطقٌ، بل يكادُ القارئُ وهو يُطالعُ ما جاءوا به يشعرُ أنّه يقفُ أمامَ قومٍ قد غابت عقولُهم في غياهبِ الوهمِ، وأقلامٍ قد أدمنتْ حبَّ الخرافةِ، وأفكارٍ تعيشُ في عالَمٍ غيرِ عالمِنا، وفي زمانٍ غيرِ زماننا، تربطُ بين الأشياءِ ربطًا عجيبًا لا يمكنُ أن يصدرَ عن إنسانٍ عرفَ الحقَّ من الباطلِ أو الواقعَ من الخيالِ.

ثم عُدتُ فرأيتُ أنّ هؤلاءِ قد بالغوا في نشرِ تلك المزاعمِ، وحرصوا على إشاعتها بين العامّةِ والخاصةِ، وتناقلوها في الفيديوهات والمواقعِ، فوجبَ عليَّ أن أبذلَ أضعافَ ما بذلوا في كشفِ الحقيقةِ وتعريةِ الزيفِ. فإنْ كانوا قد بذلوا جهدَهم لنشرِ باطلِهم، فجهدُنا في بيانِ الحقِّ أولى وأوجبُ، وإن كانوا قد حرصوا على ترويجِ الأوهامِ والخرافاتِ، فنحن على إظهارِ الحقائقِ وإزالةِ اللبسِ والتضليلِ أحرصُ منهم وأكثرُ عزمًا وإصرارًا.

وسترى فيما يلي — أيّها القارئُ الكريمُ — كيف يكونُ التفحّصُ الدقيقُ، وكيفَ يكونُ النقدُ النزيهُ الصادقُ، وسترى بأمِّ عينِك كيف يكونُ التحقيقُ العلميُّ الجادُّ الذي لا يُحابي ولا يُداهن، وكيف يكونُ التزويرُ والتلفيقُ وليُّ عنقِ النصوصِ والمخطوطات والشواهد التاريخية، وستعرفُ بيقينٍ الفرقَ بينَ مَن يتتبَّعُ الحقائقَ رغبةً في تبيينها، ومن يتتبّعُ الأوهامَ حرصًا على تزيينها.

اسكريبت موحّد للإعجازيين

ولقد رأيتُ عددًا كبيرًا من المواقعِ الإسلاميّةِ العربيّةِ والإنجليزيّةِ، وأناسًا كثيرين من النُشطاء في حوار الأديان، قد أكثروا القولَ عن معجزةِ انشقاقِ القمرِ المزعومة، والعجيبُ الغريبُ أنك إذا قرأتَ ما كتبوا وتأمّلتَ فيما نَشَروا، وجدتَهم جميعًا يُحيلون إلى المصدرِ ذاته، ويعرضون الصورَ نفسها، ويستدلّون بالحججِ عينِها، حتى إنّك لتشعرُ أنّك أمامَ كلامٍ واحدٍ متكرّرٍ محفوظٍ، كأنّهم يقرؤون من ورقةٍ واحدةٍ، أو من كتابٍ مكتوبٍ لهم سلفًا، لا يغيّرون حرفًا، ولا يضيفون جديدًا، بل يُعيدون الكلامَ كأنّهم جماعةٌ من الببغاواتِ، يُكرّرون ما يسمعون ولا يعقلون ما يقولون.

وليس أوّلَ هؤلاءِ «موقع الباحثون المسلمون»32، ولا آخرَهم الأستاذ «محمد شاهين التاعب»33، وإنّما الأمرُ أعظمُ وأخطرُ من هؤلاء جميعًا، ذلك أنّ النصَّ نفسهُ والقولَ ذاتهُ مكتوبٌ بالحرفِ الواحدِ على صفحةِ «ويكيبيديا»34، وهي الصفحةُ الأشهرُ ظهورًا، والأكثرُ وصولًا إلى عامّة الناسِ في نتائجِ البحثِ، فإذا كان هذا هو مصدرَ العامّةِ والخاصّةِ على حدٍّ سواء، وهذه هي الروايةُ التي تنشرها ويكيبيديا بانتشارها الواسع، فإنّها واللهِ الكارثةُ الكبرى، والبلاءُ الأعظمُ، إذ يصلُ إلى الناسِ خبرٌ مُضلِّلٌ، وكلامٌ مغلوطٌ، وتزويرٌ للحقيقةِ يراهُ القاصي والداني، فيظنّونه حقًّا وهو أبعدُ ما يكونُ عن الحقِّ، ويحسبونَه صدقًا وهو عينُ الباطلِ والزورِ.

******

مقال حضارة المايا

وقد رأيتُ من أعجبِ ما رأيتُ في شأنِ هؤلاء الذين خاضوا في الجوانب التاريخية لقضيةِ «انشقاق القمر»، أنّهم يكادون يُجمِعون — بل هم يجمعونَ فعلًا — على الإحالةِ إلى مقالٍ واحدٍ لا ثانيَ له، منشورٍ في موقعٍ يزعمون أنه «موقعٌ متخصصٌ في حضارة المايا». فأمّا إنْ تأملتَ ذلك الموقعَ نظرةً واحدةً، علمتَ أنّه ليس بموقعٍ علميٍّ مُحقَّق، ولا منبرٍ أكاديميٍّ موثوق، وإنما هو موقعٌ عاديٌّ بسيطٌ، أنشأهُ هواةٌ كما يفعلُ أيُّ إنسانٍ من عامّة الناس؛ كهذا الموقعِ الذي أكتبُ أنا عليه الآن، وتقرأ أنت منه هذا الكلام. ومثل هذه المواقعِ إنما هي صفحاتٌ مفتوحةٌ لكل عابرٍ يريد أن يكتب ما يشاءُ ويقول ما يحلو له، من غيرِ تحقيقٍ ولا مراجعةٍ، ولا ضبطٍ ولا تثبُّتٍ من جهةٍ معروفةٍ أو مؤسسةٍ موثوقة.

فاعلمْ — رحمك الله — أنه لا سبيلَ أمامك إلا أن تُحقِّق أنت بنفسكَ ما يُكتَب في هذه المواقعِ، وأن تتثبَّتَ من صحةِ كلِّ قولٍ تراهُ منشورًا هنا أو هناك، إذ ليسَ كلُّ ما يُنشَر يُؤخَذُ به، ولا كلُّ ما يُقال يُصدَّقُ دون نظرٍ ورويّةٍ وتمحيص. ولهذا تراني في مقالي هذا أُشدّد على نفسي قبل القارئ، فأُوثِّقُ كلَّ معلومةٍ أذكرُها، وأُحيلُ على مصدرٍ علميٍّ موثوقٍ لكلِّ قولٍ أكتبه، وأُيسِّرُ للقارئ الكريم طريقَ التحقّقِ والتدقيق، حتى يكونَ ما أكتبُ واضحًا ظاهرًا، بيّنًا لا لبسَ فيه، ثابتًا لا شكَّ يعتريه، وحتى يستطيعَ القارئُ الكريمُ أن يُحقّقَ بنفسِه، فلا يكونَ تابعًا لقولٍ بلا حُجّة، ولا مُصدّقًا لمعلومةٍ بغيرِ بيّنةٍ.

فأوّلُ ما ينبغي أن يُقالَ في هذا الشأنِ أنّ الموقعَ المُسمَّى (www.mayalords.org) ليس موقعًا علميًا معتبرًا، ولا هو صادرٌ عن هيئةٍ موثوقةٍ ذات مكانةٍ أكاديميةٍ أو عِلميّة، بل هو موقعٌ عامٌّ يستطيع أيُّ إنسانٍ أن ينشئ مثلَه، فلا يُؤخذ ما يكتبُ فيه مأخذَ التصديقِ والتسليم، بل لا بُدَّ من التثبُّت من كلِّ كلمةٍ ينطقُ بها أو معلومةٍ يُقدِّمها.

وثاني الأمورِ وأعجبُها، أن هذا المقالَ الذي كثُرت الإشارةُ إليه، وتداوله هؤلاء جميعًا في استدلالِهم، وعنوانه بالإنجليزية (The Split Moon of the Madrid Codex and Persian Manuscripts) أي «انشقاق القمر بين مخطوطات مدريد والمخطوطات الفارسية»، لا يُعلَم له كاتبٌ يُنسَب إليه، ولا صاحبٌ يُؤخَذ عنه، وإنما هو كلامٌ كُتب بلا كاتبٍ معلومٍ ولا مؤلفٍ معروف، ممّا يحولُ بين القارئِ وبين التحقُّقِ من هويةِ الكاتبِ أو التواصلِ معهُ والاستفسار منه، وتلك وحدَها كافيةٌ لإسقاطِ اعتبارِه عند التحقيقِ والتمحيص.

والثالثةُ التي هي أعجبُ من سابقتَيها، أنّ هؤلاء الذين يُكثرون الإحالةَ إلى هذا المقال، لم يُحيلوا عليه مباشرةً من رابطِهِ في الموقعِ المذكور، بل لا وجودَ له اليومَ في الموقعِ أصلًا، وإنما هو محفوظٌ عن طريقِ موقعِ الأرشيف (Archive.org). ثم زعم بعضُهم — بكلِّ جرأةٍ وصفاقةٍ — أنَّ هذا المقالَ قد تمَّ حذفُهُ عمدًا، وأوردوا في ذلك قولًا عجيبًا، فقالوا:

وبالطبع عندما كتبوا هذا المقال: لم يكن يدورُ في بالِهم أنهم يُثبِتون بذلك إحدى أشهر معجزاتِ النبيِّ محمدٍ ﷺ، ولذلك تمَّ حذفُ الرابطِ بعدها، وتغييرُ عنوانه على الموقعِ 54 مرةً!!! وذلك من تاريخ 31-8-2000م إلى 16-7-2014م مع عدم وجوده الآن أصلًا!!

وهذا الكلامُ كلُّه باطلٌ لا يصحُّ منه شيءٌ بأيِّ معيارٍ من المعاييرِ التي يُقاسُ بها الصدقُ والكذبُ، أو تُوزَنُ بها الأقوالُ والأفعالُ.

أولًا: زعمُهم أنَّ كاتبَ المقالِ لم يكن يعلمُ أو يدرِي أنه يُثبت معجزةَ النبيِّ محمدٍ ﷺ قولٌ غير صحيحٍ على الإطلاق؛ إذ إنَّ أوّلَ نسخةٍ موجودةٍ من هذا المقالِ، والتي تعودُ إلى تاريخ (31-8-2000م)، قد أوردَ فيها الكاتبُ (أو الكتّابُ) أنفسُهم صورةً مرسومةً من قِبَل المسلمين في بلادِ فارسٍ تُصوِّرُ انشقاقَ القمرِ، وكتبوا تحت الصورةِ تعليقًا نصُّهُ:

Note: “Muhammed splits the moon,” an illustration in a Falnameh, a Persian book of prophesies.

أي: «محمدٌ يشقُّ القمرَ»، صورةٌ من كتاب «فالنامه» الفارسي، وهو كتابٌ يتضمَّنُ النبوءاتِ والتنبُّؤاتِ.35

والعجبُ كلُّ العجبِ أنَّ موقعَ «الباحثون المسلمون» نفسَهُ ذكرَ هذه الحقيقةَ بعد أسطرٍ معدودةٍ، فهم من ناحيةٍ يدَّعون أنّ كاتبَ المقالِ لا يعلمُ أنّه يُثبِتُ معجزةَ النبيِّ ﷺ، ومن ناحيةٍ أخرى يُصرِّحون هم بأنفسهم أنّ الكاتبَ (أو الكتّابَ) أشاروا إلى الصورةِ الفارسيةِ الإسلامية، ووصفوها صراحةً بأنها «محمدٌ يشقُّ القمر»، فكيف يدَّعون بعد ذلك أنَّ الكاتبَ لم يكن يدري ما يكتبُ ولا يفهمُ مقصدَهُ، مع أنَّ تصريحه واضحٌ بيّنٌ قاطعٌ في أولِ مقالِه؟

وأمّا قولُهم إنَّ عنوانَ المقالِ قد تم تغييره «أربعًا وخمسين مرةً»، فهذا ادّعاءٌ باطلٌ مُفرطٌ في السخفِ؛ إذ لم يتغيّر العنوانُ سوى مرتين اثنتين فقط، ولم تكن هذه التغييراتُ إلا في صالحِ المسلمين أنفسِهم. فقد كان عنوانُ المقالِ الأصليِّ في أوّلِ الأمرِ:

Persian Ideographs in Their Illuminated Manuscripts
«الرموزُ الفارسيّة في مخطوطاتهم المُزخرَفة».

ثمَّ عُدِّلَ بعدَ ذلك إلى عنوانه الحاليّ:

The Split Moon of the Madrid Codex and Persian Manuscripts
أي: «انشقاقُ القمرِ في مخطوطاتِ مدريد والمخطوطاتِ الفارسية»، فكان تغييرهُ بهذا الشكلِ في صالحِ المسلمين أنفسِهم، لا عليهم؛ إذ ليس في العنوان الأول ذكر لانشقاق القمر، وفي العنوان الثاني ذكر لانشقاق القمر صراحةً.

فانظرْ — أيُّها القارئُ — إلى هذا التناقضِ الصارخِ، والتعارض الفاضحِ، وكيف يبلغُ بهؤلاء الحالُ أن يلفِّقوا الأوهامَ من أجلِ إثباتِ حجَّةٍ باطلةٍ، ويُلصقوا بالكاتبِ جهلًا لم يقلْهُ، وعنوانًا لم يُغيّرهُ، وكلامًا لم يكتبْهُ. وإنَّني أقولُ هذا لا رغبةً في الجدالِ، ولا تشفيًا في قومٍ قد جانبوا الصوابَ، ولكن حرصًا على إظهارِ الحقائقِ واضحةً، ونشرِ العلمِ صافيًا من كلِّ شائبةٍ، وردًّا على من استسهلَ التضليلَ، وأرادَ تمريرَ الوهمِ على الناسِ بالباطلِ، وكأنّ الحقائقَ لا تُعرفُ، والحججَ لا تُطلبُ، والأدلّةَ لا تُدقَّقُ وتُحقَّقُ.

ثم يُكمل «الباحثون المسلمون» حديثَهم في هذه المسألة فيقولون:

«جاء في المقال أنه في القرن السابع (أي ما بين سنة 600 إلى 700 ميلادية) حدث تغييرٌ شاملٌ في التقويمِ في كلٍّ من الصين وبابل وكوبان، والتي توافق حساباتِ جانيس (وكوبان من أشهر مدن حضارة المايا في العصر الحديث بين 300 و900م).
في أعلى الصفحة 139 من منتدى مايا الهيروغليفي عام 1997م، أُدخلت أعداد النقطة والشرطة كتصحيحات لقممِ الأعمدة الأخرى على أساسِ سلاسل العدد، وتأريخ الأول (والذي أظنُّ أنه التغيير الأصلي) هو 9.9.9.16.0 الموافق 9 فبراير/شباط 623 (بحسب تأريخ جوليان 6 فبراير من السنة نفسها)، وهو نفس التاريخ المذكور بالضبط في المقال!! وهو نفسه التاريخ المتوقَّع لحدوث واقعة انشقاق القمر في أواخر سنوات مكوث النبي ﷺ في مكة».

وأقولُ — وأنا على يقينٍ لا ريبَ فيه — إنَّ هذا الزعمَ بأنَّ «تغييرًا شاملًا» وقع في تقاويم هذه الحضارات إنما هو محضُ خرافةٍ، وكلامٌ باطلٌ لا يصمدُ أمام التحقيقِ العلميّ، فلا تقويمٌ تغيّر، ولا نظامٌ انقلب، ولا حدثَ شيءٌ من ذلك قطُّ في التاريخ. وإنَّ القولَ بأنّ التقويم تغيّر جذريًّا بناءً على هذا التاريخ تحديدًا، ليس إلا كذبًا صريحًا وتدليسًا فجًّا لا يستقيم مع الواقعِ ولا يوافقُ الحقيقةَ بشيءٍ.

فها هي ذي مخطوطةُ دريسدن (Dresden Codex) الشهيرة، وفيها أكثرُ من أربعين تاريخًا محدَّدًا واضحًا لا غموضَ فيه، منها هذا التاريخُ المذكورُ تحديدًا (9.9.9.16.0) الموافق (9 فبراير 623م)، فهو لم يكن تاريخًا معلَّقًا في الهواءِ، ولا مكتوبًا في عدمٍ، ولا أشارت المخطوطةُ — من قريبٍ أو بعيدٍ — إلى أنّه بدايةُ تقويمٍ أو تغيّرٍ شاملٍ في حسابِ الأيام، أو أنه حدثٌ فلكيٌّ غريبٌ لم تشهد الدنيا مثيلًا له، بل إنَّ المخطوطةَ نفسها وفي ذات الصفحةِ التي يشيرون إليها تقولُ بوضوحٍ صريحٍ لا لبسَ فيه إنَّ هذا التاريخَ تحديدًا يخصُّ كوكبَ الزهرةِ، وإنّه بدايةُ ظهورِ هذا الكوكبِ من خلف الشمسِ بعد غيابٍ له، وليس لهذا التاريخ أدنى علاقةٍ بالقمرِ، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ.36

وأعجبُ من هذا كلِّه أن هؤلاء الذين أكثروا من تضخيم هذا التاريخ وتضليل الناس به، تجاهلوا عمدًا أنَّ مخطوطة دريسدن (Dresden Codex) نفسها قد خصَّصت للقمرِ تواريخَ أخرى وخُسوفاتٍ واضحةً بيّنةً مدوَّنةً فيها بالتفصيل، فلماذا تجاهلوا عمدًا ما صرَّحت به المخطوطةُ من أنّ هذا التاريخَ خاصٌّ بظهورِ كوكب الزهرةِ دونَ غيرِه؟ ولماذا تعمّدوا تصويرَ الأمرِ على أنّه حدثٌ فلكيٌّ عظيمٌ هائلٌ مجهولُ الهوية، أحدث انقلابًا في تقاويم الأممِ والحضاراتِ، وكأنّه شيءٌ خفيٌّ عظيمٌ غيرُ معروفٍ ولا مشهودٍ، مع أنّ المخطوطةَ ذاتها تُصرِّحُ تصريحًا واضحًا لا غموضَ فيه أنّه خاصٌّ بكوكبِ الزهرة، وليس مرتبطًا بالقمر أصلًا؟

إنَّ هذه الطريقةَ في العرضِ والتدليسِ، وإخفاءِ بعض الحقائقِ عن أعين الناسِ، وإظهار بعضها الآخر على غير حقيقتِه، إنما هي من أسوأِ أساليب التضليل، التي يلتجئ إليها مَن ضَعُفت حُجَّتُه، وخارت قواهُ أمام الحقائقِ التاريخيةِ الواضحةِ. ولو كانوا على حقٍّ، ما احتاجوا إلى هذه الحِيَلِ، ولما تجاهلوا تصريحَ المخطوطةِ الواضحَ حول طبيعةِ هذا التاريخِ، بل كانوا سيعرضونه كاملًا بلا حذفٍ ولا إخفاءٍ، ثقةً في قوّةِ حُجَّتهم، ويقينًا من وضوحِ دليلهم.

ولكنّ الذي يدفعُهم إلى مثلِ هذه الألاعيبِ والتضليلِ هو علمُهم اليقينيُّ بأنّ الحقَّ لو ظهرَ لانكشفَ زيفُ دعواهم، ولو تبيّنَ للناسِ حقيقةُ ما في هذه المخطوطةِ لسقطت حجّتُهم من فورها، ولتبيَّنَ القاصي والداني أنَّ هؤلاءِ يبيعون للناسِ الوهمَ، ويُزيِّنون لهم الخرافةَ، ويخدعونهم بالباطلِ من القولِ، إذ يعجزون عن مواجهةِ الحقيقةِ كما هي، فتراهم يهربون منها إلى الظنونِ والأوهامِ، واللهُ من وراءِ قصدِهم مُحيطٌ.

وثانيًا: فلنَدَعِ الآن كلَّ منطقٍ صحيحٍ، ولنتغافل عمدًا عن كلّ حقيقةٍ واضحةٍ، ولنفترض جدلًا أننا صدَّقنا ما قاله ذلك المقالُ في موقع المايا، وما نقله عنه «الباحثون المسلمون» من أنّه قد حدث بالفعل «تغييرٌ شاملٌ في التقويم»، ولنطرحْ جانبًا تصريحَ المخطوطة الواضح عن كوكب الزهرة، ولنغضَّ الطرْفَ عن أنّ المخطوطة لم تذكر القمر أصلًا في هذا التاريخ، ولنعتبر كلامهم هذا صدقًا لا كذبَ فيه، وحقًّا لا باطلَ معه. فإنْ نحنُ فعلنا ذلك — وهو فعلُ من غابت عقولُهم وأعياهم التمييز — وجب علينا عندئذٍ أن يكون هذا التاريخ (9 فبراير 623م) موافقًا لانشقاق القمر بحسب الرواية الإسلامية، وأن يكون القمرُ فيه بدرًا كاملًا، إذ إنّه لا خلاف بين المسلمين أنّ القمرَ انشقَّ وهو مكتملٌ تامٌ.

فإذا ما عُدنا إلى الحسابات الفلكية الدقيقة التي لا تقبلُ الشكَّ ولا التغيير، والتي أعدَّها علماءُ الفلكِ الكبار، كالعالِم الأمريكي «فريد إسبيناك» (Fred Espenak) الذي يعملُ لدى وكالة ناسا، وعالمِ الفلك البلجيكيّ الشهير «جان ميوس» (Jean Meeus) صاحب الخبرة الواسعة في حسابات الأفلاكِ والأرصادِ، تبيَّن لنا يقينًا أنَّ القمرَ في هذا التاريخِ تحديدًا (9 فبراير 623م)، كان ما يزالُ هلالًا صغيرًا ضعيفًا، لا يكادُ يُرى، ولم يكن بدرًا ولا قريبًا من البدر. فبحسب هذه الحساباتِ الفلكية التي لا تجامِلُ ولا تداهنُ ولا تخضعُ للأهواءِ، فإنَّ ميلادَ القمرِ الجديد كان يوم الخامسِ من فبراير، فإذا وصلنا إلى يوم التاسع من الشهر ذاته، كان عمرُ القمرِ أربعة أيامٍ فقط، والقمرُ في اليوم الرابعِ إنما هو هلالٌ غضٌّ صغير، لا بدرٌ مكتملٌ تام.37

حسابات الباحثين في وكالة ناسا لأطوار القمر
شكل القمر كما يظهر في ذلك اليوم مظللًا بالأحمر

فانظروا — رحمكم الله — إلى هذه المصيبةِ الكبرى، كيف يريدون من الناسِ أن يُصدّقوا كلامَهم ويقبلوا دعواهم، حتى ولو خالفت الحقيقةَ الثابتةَ، والعلمَ الصحيح، والحسابَ الفلكيَّ الدقيق، وكيف يريدوننا أن نغضَّ الطرفَ عن البراهين الواضحةِ، وعن الحساباتِ التي لا تكذبُ ولا تخطئ، لنصدّق كلامًا واهيًا لا يصمُدُ أمام التحقيقِ لحظةً واحدة.

وثالثًا: ولو فرضنا بعد كلِّ هذا، أنَّ القمرَ في ذلك اليومِ كان بدرًا مكتملًا كما يدَّعون، ولم يكن هلالًا، وأنّ هذا التاريخ (9 فبراير 623م) كان حقًّا موافقًا لليومِ والشهرِ، فهل يوافق السنةَ التي وقع فيها انشقاق القمر بحسب الروايةِ الإسلاميّة الصحيحة؟

لقد زعم «الباحثون المسلمون» ومن نحا نحوهم من باحثين مسلمين، أنّ هذا التاريخ (9 فبراير 623م) يوافقُ وجود النبيِّ ﷺ في مكةَ، وأنَّ الهجرة النبوية كانت في عام 624م، وهو زعمٌ لا ينطلي على أحدٍ من المسلمين، بل فيه من التدليسِ والخداعِ ما لا يخفى، إذ المعروف المشهورُ المجمعُ عليه أنّ النبيَّ ﷺ هاجرَ من مكة إلى المدينةِ المنورةِ في يوم الجمعة الموافق 12 من ربيعٍ الأوّل، سنة 1 للهجرة، والذي يوافق (27 سبتمبر عام 622م)، وعمره آنذاك ثلاثٌ وخمسون سنةً. وبذلك يكون التاريخُ الذي ذكروه (9 فبراير 623م) ليس في أواخرِ سنواتِ مكثِ النبيِّ ﷺ في مكةَ كما يزعمون، بل بعد أن هاجرَ النبيُّ إلى المدينةِ المنورة، أي في السنةِ الأولى من الهجرة النبوية المباركةِ، بعد أن غادرَ النبيُّ مكّةَ، وبعد أن استقرَّ به المقامُ في المدينةِ، وأقام فيها دولة الإسلام.

فكيف يُريدون من الناسِ أن يصدّقوا أنّ انشقاقَ القمرِ قد حدثَ في السنة الأولى للهجرةِ، والنبيُّ ﷺ في المدينةِ المنورةِ، بينما الرواياتُ الإسلاميّة جميعُها تقول إنّ هذه الحادثةَ المزعومةَ وقعت في مكّةَ قبل الهجرةِ بسنوات؟! فانظروا إلى أين أوصلهم التدليسُ، وإلى أيِّ مدىً بلغَ بهم الاستخفافُ بعقول الناس، حتى جعلوا سنةَ الهجرةِ تتغيّرُ وتتبدّلُ بحسب أهوائهم، ليتوافقَ ذلك مع مقالٍ واهٍ في موقعٍ مجهولٍ، ومع تاريخٍ في مخطوطةٍ لا علاقةَ له بالقمرِ أصلًا.

ورابعًا: دعنا نتمادَ في التغافل عن الحقائقِ العلميّة والحساباتِ الفلكيّة والتواريخِ الثابتة، ولنَقبلْ جدلًا — كما يحلو لهم — أنَّ هذا التاريخَ خاصٌّ بانشقاقِ القمرِ، وليس بظهورِ كوكب الزهرة كما صرَّحت به المخطوطةُ تصريحًا واضحًا لا يحتملُ التأويل، ولنَفترضْ أنّ القمرَ كان في ذلك اليوم بدرًا مكتملًا وليس هلالًا صغيرًا كما أثبتت الحساباتُ الفلكيّةُ اليقينيةُ، ولنُسلّمْ أيضًا أنّ سنة 623م كان النبيُّ ﷺ فيها لا يزالُ في مكةَ ولم يهاجرْ بعد، ولنتخيّل أنّ كلّ هذا مُطابقٌ تمامًا لما ورد في مخطوطة حضارةِ المايا — فكيف سنُعالجُ مسألةَ التوقيتِ بين مكّةَ والمكسيك، والفارق بينهما تسعُ ساعاتٍ كاملة؟!

فلو كان النبيُّ ﷺ وصحابتُه الكرام في مكّةَ في الليلِ يُشاهدون القمرَ منشقًّا أمام أعينهم، لكانت المكسيكُ في ذلك الوقت تحديدًا نهارًا واضحًا لا ليلَ فيه، فلا قمرَ يُرى، ولا نجومَ تُرصَد، ولا سماءَ تَنكشفُ لهم ليشاهدوا ما يشاهده أهلُ مكّة. فكيف إذن سجَّلت حضارةُ المايا انشقاقَ القمرِ المزعومَ في وقتٍ كان فيه النهارُ قائمًا، والشمسُ مشرقةً، والقمرُ غائبًا لا يُرى؟!

ثمّ يُكملُ «الباحثون المسلمون» نقلَهم الأعمى من ذلك المقالِ العجيبِ فيقولون:

«ولأنّ القمر به تجاويفُ وتضاريسُ شهيرةٌ، يمكن تشبيهُها بالأرنبِ كما هو معروفٌ ومشهورٌ؛ فقد رمزت له الحضاراتُ القديمةُ بالأرنبِ في رسوماتها.
وهنا يذكر لنا المقالُ كيف أنّه بعد رصدِهم لهذا الانشقاقِ في القمر: قاموا باستبدالِ القردِ الفلكيِّ بأرنبٍ مشقوقِ الوجهِ!! وبعلامتَي استفهامٍ في أُذنَيهِ انتظارًا للقردِ إنهاءَ عملِه النهائي!».

صورة النفش والأرنب

فانظروا — يرحمكم الله — إلى هذا التخبُّطِ العجيبِ الذي لا يستقيمُ معهُ عقلٌ ولا منطقٌ ولا علمٌ:

أوّلًا: إنَّ صورةَ هذا الأرنبِ المزعومِ ليست أصلًا من المخطوطاتِ التي جرى الحديثُ عنها، ولم تُذكر في تلك المخطوطاتِ قطُّ، وليس لها أيُّ علاقةٍ بالفلكِ، ولا بالقمرِ، ولا بالشمسِ، ولا حتى بكوكبِ زُحَلَ.

وثانيًا: إنَّ هذه الصورةَ التي أخذوها — وتشبّثوا بها — ليست سوى رسمٍ منقوشٍ على كوبٍ عاديٍّ، وليس ضمن مخطوطاتِ حضارةِ المايا المُخصَّصةِ للحساباتِ الفلكية أو الأحداثِ السماويةِ والتقويماتِ الزمنية.38

الإناء الذي عليه النقش

وثالثًا: قد تناول الباحثون الأكاديميّون في جامعة المكسيك هذه الرسومات في رسائلهم العلمية وأبحاثهم الجامعية، ولم يقولوا عنها قطُّ إنّها مرتبطةٌ بظاهرةٍ كونيّةٍ أو انشقاقِ قمرٍ أو انقلابٍ في قوانينِ الطبيعة، بل رأوا فيها دلالةً على الغناءِ والرقصِ والمرحِ، لا على أحداثٍ فلكيةٍ أو ظواهرَ كونية. فانظرْ — عزيزي القارئ — إلى الفرقِ الشاسعِ بين من يدرسُ هذه الرسوم دراسةً علميّةً أكاديميّةً رصينةً، وبين من يختلقُ الأكاذيبَ ويتوهَّمُ الخيالاتِ ليُضلّلَ بها الناسَ ويُوهِمَهم بما لا وجودَ له، فيحوِّلُ صورةً من صورِ الفرحِ والرقصِ والغناءِ إلى معجزةٍ كونيّةٍ هائلةٍ لم تشهد لها الدنيا مثيلًا.39

ورابعًا: لو افترضنا افتراضًا لا يقبله عقلٌ ولا يقرّه منطقٌ، أنّ هذه الرسومَ فعلًا تتحدّثُ عن انشقاقِ القمرِ، فهل يُعقلُ أن يكونَ حدثٌ كهذا، المفترضُ فيه أن يكونَ حدثًا كونيًّا هائلًا مُخيفًا مُروِّعًا تهتزُّ له النفوسُ وتضطربُ له القلوبُ، حدثًا يُصوِّرُه الناسُ وهم يرقصون ويغنّون ويتمايلونَ طربًا وفرحًا وابتهاجًا؟! أهذا منطقٌ يستقيمُ في عقلٍ أو يَقبلُه عاقلٌ؟

إنَّ هذه الصورةَ المُضحكةَ، التي أرادوا أن يُمرّروها على الناسِ وكأنّها حقيقةٌ علميّةٌ، هي في الحقيقةِ شاهدٌ على عجزِهم وضعفِ حُجَّتهم، وهي دليلٌ قاطعٌ على أنّ هؤلاءِ القومَ لم يعودوا يميّزون بين ما يُقبَلُ وما لا يُقبَلُ، وبين ما يُصدَّقُ وما لا يُصدَّقُ، وأنَّهم باتوا على استعدادٍ أن يستعينوا بأيِّ شيءٍ مهما بلغت سخافتُه وضعفُه، لتثبيتِ دعواهم الواهيةِ، ولو كان ذلك على حسابِ الحقيقةِ والعقلِ والعلمِ والمنطقِ. ولو كان في كلامهم ذرّةٌ من حقٍّ، لما اضطرّوا إلى مثلِ هذه الخرافاتِ السخيفةِ والتأويلاتِ المُضحكةِ، ولكنَّ الباطلَ إذا عجز عن إثباتِ نفسهِ بالحُجَّةِ الصحيحةِ، لجأ إلى مثل هذه الخزعبلاتِ والأوهامِ والتضليلِ، واللهُ حسيبُهم على ما يفعلون.

******

الهند: بلد المليون كفيف

ورغم هذا الجدلِ الكبيرِ، والنقاشِ الطويلِ المحتدمِ الذي دار في التراث الإسلامي حول واقعةِ «انشقاق القمر»، فإنّه لم يُؤثَرْ قطُّ عن واحدٍ من علماءِ المسلمين، ولا من مُحدّثيهم، ولا فقهائهم، على مدار تلك القرونِ الطويلةِ المتتابعةِ، أنه استدلَّ يومًا برؤيةِ الحضاراتِ الأخرى لهذه الحادثةِ، ولا استعانَ يومًا بسجلّاتِ الأممِ غيرِ الإسلاميةِ لإثباتها؛ بل كان عكسُ ذلك تمامًا هو الصحيحُ، إذ كان كلُّ همِّهم وغايةُ سعيِهم أن يجدوا التبريرَ الكافيَ لعدمِ رؤيةِ الأممِ الأخرى لهذه الواقعة. فتارةً يقولُ قائلُهم إنَّ الله تعالى أعمى أبصارَ الشعوبِ والأممِ الأخرى حتى لا يَرَوا ما حدث، وتارةً أخرى يبرّرون ذلك بأنَّ الواقعةَ حصلت في ساعةٍ متأخرةٍ من الليلِ، وعادةُ الناسِ أن يكونوا حينها نيامًا، فلا يُبصرون ما يجري فوقَ رؤوسهم. وإن اعترضَ عليهم معترضٌ بأن الناسَ ربما كانوا مستيقظينَ في ذلك الوقتِ، أجابوه بأنَّ الليلة ربما كانت ليلةَ شتاءٍ باردةً، والناسُ في بيوتهم مُنصرفون إلى الدفء، لا شأنَ لهم بما يحدثُ خارجَ بيوتهم. بل ذهبَ بعضُهم إلى أبعدَ من ذلك، فقالوا إنَّ الناسَ حتى لو كانوا خارجَ بيوتهم وأيقاظًا في تلك الساعة، فإنَّ قليلًا منهم من يرفع رأسَهُ إلى السماءِ، وينظرُ في القمرِ مُحدّقًا، فيرى تلك المعجزة.

صحابي هندي عاش ٦ قرون

وهكذا ظلَّ المسلمون يقدّمون المعاذيرَ، ويسوقون الحججَ، قرنًا بعد قرنٍ، منذ القرنِ الأوّلِ والثاني والثالثِ والرابعِ، وصولًا إلى القرنِ الثامنِ الهجريِّ، حيث ظهرَ — وللمرة الأولى — من يُعلنُ أنّ أمّةً أخرى، وحضارةً ثانيةً، قد شاهدت هذه المعجزةَ وأرّخت لها. فجاءَ ابنُ كثيرٍ، بعد أن ساقَ المعاذيرَ ذاتها التي ذكرها من سبقوه، ليقولَ في كتابه «البداية والنهاية»: «ومع هذا، فقد شوهدَ ذلك في كثيرٍ من بقاعِ الأرض، ويُقالُ إنه أُرِّخَ ذلك في بعضِ بلادِ الهندِ، وبُنِيَ بناءٌ في تلك الليلةِ، وأُرِّخَ بليلةِ انشقاقِ القمرِ.»40

يظهر، والله أعلم، أن قصة الهند مع انشقاق القمر بدأت في القرن السابع، وعلى وجه التحديد عام ٦٦٥، حيث ذكر الذهبي أنه وقف على نسخةٍ فيها أحاديث عن رسول الله قد رواها عبيد الله ابن محمد بن عبد العزيز السمرقندي عن شخص هندي اسمه رتن بن نصر بن كربال الهندي، وحدثهم بثلاثمائة حديث.41 وقد أنكر الذهبي هذه الأحاديث كلها وقال: «فأظن أن هذه الخرافات من وضع موسى هذا… ولو نُسبت هذه الأخبار الى بعض السلف لكان ينبغي أن يُنَزَّه عنها فضلًا عن سيد البشر.»

بدأت قصة رتن الهندي هذا في القرن السابع عندما ادعى أنه من صحابة رسول الله، وأنَّ الرسولَ دعا له ست مرات بطول العمر، فعاش أكثر من ستمائة سنة، وأنه حضر زفاف الإمام علي والسيدة فاطمة. وكان بعض الأشخاص يأخذون عنه الأحاديث التي يذكرها لهم متفاخرين بأنهم أعلى الناس سندًا في حديث رسول الله في هذا الزمان؛ إذ ليس بينهم وبين رسول الله إلا هذا الرجل الصحابي. وكانوا يدعون أن سلستهم في السند هي سلسلة الذهب، فقال الذهبي: بل هي سلسلة الكذب.42

يذكر ابن حجر العسقلاني أن الصفدي قد ذكر قصة رتن الهندي في كتابه «التذكرة الصفدية»، وقد أنكر عليه بعض الناس ذكر هذه القصة الخرافية، فحاول في هذا الكتاب أن يحتج لها ويقويها ويذكر لها مصادر عدة. إلا أن هذا الكتاب لا يزال مخطوطًا حتى الآن، لكن لدينا نقل ابن حجر عنه، ولدينا ذكر القصة في كتاب «الوافي بالوفيات» للصفدي كذلك. وسأذكر القصة من «الوافي بالوفيات»؛ إذ أوردها ابن حجر مختصرةً في «لسان الميزان»، وأريد أن أذكر أطولَ نسخةٍ من هذه القصة بين أيدينا الآن. كتب الصفدي نقلًا عن غيره: 

كنت في زمن الصبا وأنا ابن سبع عشرة سنة – أو ثماني عشرة سنة – سافرت مع أبي محمد وعمي عمر من خراسان إلى بلد الهند في تجارة. فلمَّا بلغنا أوائل بلاد الهند وصلنا إلى ضيعة من ضياع الهند فعرَّج أهلُ القفل نحو الضيعة ونزلوا بها. وضج أهل القافلة فسألناهم عن الشأن، فقالوا: هذه ضيعة الشيخ رتن. اسْمه بالهندية وعرَّبه النَّاس وسمُّوه بالمُعَمَّر لكَونه عَمَّرَ عمرًا خارجًا عن العادة. فلمَّا نزلنا خارج الضيعة رأينا بفنائها شجرةً عظيمةً تظل خلقًا عَظِيمًا وتحتها جمعٌ عَظِيمٌ من أهل الضيعة. فتبادر الكلُ نحو الشجرة ونحن معهم. فلمَّا رآنا أهلُ الضيعة، سلّمنا عليهم وسلّموا علينا، ورأينا زنبيلًا [هو الوعاء أو القُفّة] كبيرًا مُعَلّقًا في بعض أغصان الشجرة. فسألنا عن ذاك، فقالوا: هذا الزنبيل فيه الشيخ رتن الذي رأى النبيَ ﷺ مرتين ودعا له بطول العمر ست مرات. فسألنا جَمِيع أهل الضَّيْعَة أَن ينزل الشَّيْخ ونسمع كَلَامه وَكَيف رأى النَّبِي ﷺ وما يروي عنه، فتقدّم شيخٌ من أهل الضيعة إلى الزنبيل وكان ببكرة، فأنزله فإذا هو مملوء بالقطن والشيخ في وسط القطن. ففتح رأس الزنبيل وإِذا الشيخ فيه كالفرخ، فحسر عَن وَجهه وَوضع فَمه على أُذُنه وَقَالَ: يَا جداه هَؤُلَاءِ قوم قد قدمُوا من خُرَاسَان وَفِيهِمْ شرفاء أَوْلَاد النَّبِي ﷺ وَقد سَأَلُوا أَن تحدثهم كَيفَ رَأَيْت رَسُول الله ﷺ وماذا قَالَ لَك؟
فَعِنْدَ ذَلِك تنفس الشَّيْخ وَتكلم بِصَوْت كصوت النَّحْل بِالْفَارِسِيَّةِ وَنحن نسْمع ونفهم كَلَامه فَقَالَ: سَافَرتُ مَعَ أبي وَأَنا شَاب من هَذه الْبِلَاد إِلَى الْحجاز فِي تِجَارَةٍ. فَلَمَّا بلغنَا بعضَ أَوديَة مَكَّة،وَكَانَ الْمَطَر قد مَلأ الأودية بالسيل فرَأَيت غُلامًا أسمر اللون، مليح الكَوْن، حسن الشَّمائِل، وهو يرعى إبِلًا فِي تلكَ الأودية، وَقد حَال السَّيْل بينه وبين إبله وهو يخشى من خوض السّيل لقُوته. فَعلمتُ حالَه فأتيت إِليه وحملته وخضت السَّيل إلى عند إبله من غير معرفَةٍ سابِقَة. فَلَمَّا وَضعتُه عِنْد إبِله، نظر إِلَيّ وقال لي بالْعربيَّة: بَارك الله فِي عمرك، بَارك الله فِي عمرك، بَارك الله فِي عمرك. فتركته ومضيت إِلَى سبيلي إِلَى أَن دَخَلنَا مَكَّة وقضينا مَا كنا أتينا له من أمر التِّجارة وعدنا إلى الوطن. فلما تطاولت الْمدَّة على ذلك كُنَّا جلوسًا في فنَاء ضيعتنا هذه ليلة مُقْمِرَة، ورأينا ليلة البدر والبدر في كبد السَّمَاء إِذْ نظرنا إِليه وقد انشقَّ نصفين، نصف في الْمشرق ونصف في الْمغرب إلى أن التقيا في وسط السَّمَاء كما كان أول مرّة. فعجبنا من ذَلك غَاية العجب ولم نعرف لذَلِك سَببًا. وسأَلنَا الركْبَان عن خبر ذلك وسببه فأخبرونا أَن رجلًا هاشميًا ظهر بمكة وادّعى أنه رسُول من الله إلى كافَّة الْعَالم، وأن أهل مكة سألوه معجزةً كمعجزة سائر الأنبياء، وأنهم اقترحوا عليه أن يأمر القمر فينشق في السماء ويغرب نصفه فِي الغرب وَنصفه فِي الشرق ثمَّ يعود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَفعل لَهُم ذَلِك بقدرة الله تعالى. فلما سمعنا ذلك من السُّفار، اشْتقت أَن أرى الْمَذكُور فتجهزتُ في تجارةٍ وسافرت إلى أن دخلت مكَّة وسأَلت عن الرجل الْمَوْصُوف، فدلوني على موضعه. فَأتيت إلى منزله، واستأذنت عليه، فأذن لي، وَدخلت عليه فوجدته جالسًا في صدر الْمنزل والأنوار تتلألأ في وجهه وقد استنارت محاسنه وتغيرّت صفاته التي كنت أعهدها في السفرة الأولى، فلم أعرفهُ. فلمَّا سلمت عليه نظر إليّ وتبسم وعرفني، وقال: وعليك السَّلام. ادن مني. وكان بين يديه طبق فيه رطب، وحوله جماعة من أصحَابه كَالنُّجُومِ يعظمونه ويبجلونه. فتوقفت لهيبته فقال ثانيًا: ادن مني. وكل الْمُوَافقَة من المرُوءَة والمنافقة من الزندقة. فتقدمتُ وجلست وأكلتُ معهم الرطب، وصار يناولني الرطب بيده المباركة، إلى أن ناولني سِتّ رطبات من سوى مَا أكلتُ بيدي. ثمَّ نظر إليّ وتبسم وقال لي: ألم تعرفني؟ قلت: كَأَنِّي، غير أَنِّي ما أتذكر. فقال: ألم تحملنِي في عام كذا وجاوزت بي السَّبيل حين حال السَّيْل بيني وبين إبلي؟ فعند ذلك عرفته بالعلامة. وقلت له: بلى والله، يا صبيح الوجه. فقال لي: امدد إِليّ يدك. فمددتُ يدي اليُمنى إِليه فصافحني بيده اليُمنى. وقال لي: قل أشهد أن لا إله إلَّا الله، وأشهد أن مُحَمَّدًا عبده ورسوله. فقلت ذلك كما علمني، فسُرَّ بذلك، وقال لي عند خروجي من عنده: بارك الله في عمرك، بارك الله في عمرك، بارك الله في عمرك. فودعته وأنا مستبشرٍ بلقائه وبالإسلام. فاستجاب الله دعاء نبيه وبارك في عمري بكُل دعوة مائة سنة، وهما عمري اليوم نيف وست مائة سنة، ازداد في عمري بكل دعوة مائة سنة وجميع من في هذه الضيعة العظيمة أولاد أولاد أولادي، وفتح الله عليّ وعليهم بكل خير وبكل نعمة ببركة ﷺ.43

كما ذكر الصفدي أن الذهبي حين سمع هذه القصة قال: «مَن صدق هَذه الأعجوبةَ وآمن بِبَقَاء رتن، فَمَا لنا فِيهِ طب. فَليعلم أنني أول مَن كذَّب بذلك، وأنني عَاجز مُنْقَطع مَعَه فِي المناظرة». وما أجمل ما نقله ابن حجر العسقلاني عن الذهبي كذلك بخصوص هذا الرجل فقال:

واعلموا أنَّ هِمَمَ الناس ودواعيهم متوفرة على نوادر الأخبار، فأين كان هذا الهندي في هذه الستمائة سنة؟ أما كان مَن قرُبَ من بلده يتسامع به ويرحل إليه؟ أين كان لما فتح محمود بن سبكتكين الهندَ في المائة الرابعة وقد صنفوا سيرته وفتوحه، ولم يتعرض أحدٌ من أهل ذلك العصر لذكر هذا الهندي؟ ثم اتسعت الفتوح في الهند ولم يُسمع له بذكر في الرابعة ولا في بعدها! ثم تطاولت الأعمار بمرور الليالي والنهار إلى عام ستمائة ولم ينطق بذكره رسالةٌ ولا عرَّج على أحواله تاريخٌ ولا نقل وجوده جوَّالٌ ولا رحالٌ ولا تاجرٌ سفاّر! ثم يُشبه مَن يصدقه بمَن يصدق بوجود المهدي صاحب السرداب.44

قصة الملك الهندي جاكرواني فرماس أو شيرامان بيرومال

لعل الإحالة الأشهر في قصة انشقاق القمر وعلاقته بالحضارات المختلفة، ليست هي القصة السابقة لهذا «الصحابي» الهندي الذي عاش ستمائة سنة؛ إذ أن هذه القصة لا تلقى انتشارًا ولا ترويجًا، لكن أردت فقط ذكرها من باب الأمانة العلمية، ومحاولة للإلمام بما ذُكر في المصادر والتراث العربي بخصوص هذا الشأن، لكن القصة الأكثر انتشارًا هي قصة الملك «جاكرواني فرماس»، تلك هي القصة التي انتشرت كالنار في الهشيم في جميع المواقع العربية والإنجليزية. وسنحاول تحليلها وإلقاء الضوء عليها، كما سنفعل مع غيرها من القصص والمخطوطات التي لم تنشر على الإنترنت.

ابتداءً، هناك أربع مصادر سوف أعتمد عليها في هذا المقال وسأذكرهم واحدًا تلو الآخر.

كتاب أصل كيرالا (Keralolpathi)

ابتداءً هذا الكتاب تمت كتابه في القرن الخامس عشر إلى القرن التاسع عشر الميلادي، وحادثة انشقاق القمر من المفترض أنها حدثت في القرن السابع الميلادي، أي أننا لو أخذنا أقرب تاريخ لهذا الكتاب فسيكون بين تاريخ كتابته وتاريخ الواقعة ٧ قرون كاملة. 

في الفصل السابع من الكتاب، يتناول المؤلف قصة إسلام الملك. وفقًا لما يرويه النص، تبدأ الحكاية مع زوجة شيرامان بيرومال، التي وقعت في غرام حارس الملك الشخصي. إلا أن هذا الحارس، حين رفض تقدماتها العاطفية، استشاطت غضبًا وأقسمت على الانتقام منه، فحاكت مؤامرة تمكنت من خلالها من إقناع الملك بإعدامه. وعندما ضُربت الضربة القاتلة التي أودت بحياة الحارس، ظهرت عربة سماوية من السماء، كأنها دعوة من الآلهة تدعوه للصعود. كانت هذه الظاهرة إشارة بالنسبة للملك شيرامان بيرومال، إذ فهم منها أن قتله لحارسه كان ظلمًا فادحًا، فأدرك أنه ارتكب إثمًا جسيمًا وأراد التكفير عن ذنوبه. وقبل أن يلفظ الحارس أنفاسه الأخيرة، أوصى الملك بأن يذهب في رحلة حج إلى مكة لكي يتعلم الفيدا الرابعة. وأوضح له مسار رحلته التي تبدأ بالسفر أولًا إلى مدينة تشاتورابورام، ثم إلى مدينة تيروفانتشانشاجي، قبل أن يشق طريقه إلى مكة المكرمة.

وفي طريقه، التقى الملك برجل مسلم من جماعة المابيلا (Mappila Muslims) يُدعى فيدا أزيار. وقيل إنه من خلال مرافقة هذا المسلم في رحلته للحج، والإيمان بعقيدته، سينال الخلاص الجزئي من ذنوبه. بعد التشاور مع مجمع عظيم من علماء الفيدا، قرر شيرامان بيرومال الانضمام إلى «البوذية» في هذه الرحلة المقدسة، وهو مصطلح استخدمه المؤلف كمرادف للديانة الإسلامية، رغم الالتباس الذي قد يكون وقع فيه بين الديانتين الإسلامية والبوذية.

بحلول هذا الوقت، كان بيرومال رجلًا طاعنًا في السن، ولم يكن متأكدًا مما إذا كان سيتمكن من العودة إلى مملكته قبل وفاته. لذلك، أصدر أمرًا بتقسيم مملكته بين المقربين منه الذين يثق بهم. وبعد أن أتم تنظيم هذه الأمور، أبحر بيرومال في رحلته إلى الحج. وكما أوصاه حارسه الراحل، سلك الطريق المرسوم له، حتى وجد نفسه أولًا في جدة. وهناك، التقى بالنبي محمد ﷺ شخصيًا، حيث منحه اسمًا جديدًا، «تاج الدين»، وأعلن إسلامه قبل أن يتوجه أخيرًا إلى مكة المكرمة.

غير أن هناك التباسًا زمنيًا واضحًا في النص، إذ يُقال إن هذه الحادثة وقعت في سنة 355 ميلادية، أي قبل أكثر من قرنين من ولادة النبي محمد ﷺ، مما يشير إلى أن هناك خلطًا تاريخيًا أو خطأً في التأريخ الوارد في المصدر. تصل القصة إلى ذروتها ونهايتها حين يصدر شيرامان بيرومال أوامره إلى أتباعه بنشر الإسلام في منطقة المالايالام، قبل أن يوافيه الأجل.45

مخطوطة واي (Wye Manuscript)

تُسرد قصة شيرامان بيرومال في مخطوطة واي (Wye Manuscript) بإيجاز ملحوظ، مقارنةً بالمصادر الأخرى مثل كيرالولباثي (Keralolpatti) ومخطوطات ماكنزي (Mackenzie Manuscripts). تبدأ الرواية مع بيرومال وهو يستعد لمغادرة مملكته متوجهًا إلى مكة المكرمة، دون أن يقدم النص أي تفسير واضح للدوافع التي قادته إلى اتخاذ هذا القرار المصيري. ومع ذلك، فإن هذه المخطوطة ذاتها، رغم تركيزها الأساسي على تاريخ وصول البرتغاليين إلى الهند، تفتتح سردها بقصة شيرامان بيرومال دون أي مقدمة أو تمهيد.

تبدأ القصة بوصف تقسيم بيرومال لمملكته بين مجموعة من الأمراء المحليين، حيث يوضح المؤلف أن ملك زامورين (Zamorin)، في ذلك الوقت، كان بعيدًا عن البلاط الملكي، ولهذا لم يكن من بين أولئك الذين مُنحوا ممالك ضمن التقسيم الملكي. إلا أن ملك زامورين عاد إلى البلاط قبل مغادرة بيرومال مباشرةً، وعندها أهداه الملك ختمه الملكي وسيفه الشخصي، مصحوبًا بتفويض رسمي واضح: «اغزُ البلدان واحتفظ بها بهذا السيف.»

بعد ذلك، أبحر بيرومال في رحلته المقدسة، بينما انطلق ملك زامورين في تنفيذ أوامره، فقاد حملاته وسيطر على أراضي كثيرة. يشير النص إلى أنه مع ترسيخ حكم سلالة زامورين، ازدهرت المدينة وأصبحت مركزًا تجاريًا وثقافيًا نابضًا بالحياة، حيث استقبلت المسلمين الوافدين من شتى بقاع العالم. تصل القصة إلى خاتمتها بالإشارة إلى أن ملوك زامورين في كاليكوت أصبحوا أقوى السلالات الحاكمة في إقليم ملبار، وأن بيرومال وضع ثقته بهم أكثر من أي جهة أخرى، والدليل على ذلك أنه منحهم ختمه الملكي وسيفه، وكأنما أورثهم قوة حكمه وسلطانه.

مخطوطة ماكنزي The Mackenzie Manuscripts

يستعرض الجزء الرابع من المخطوطة رقم 75 قصة شيرامان بيرومال من منظور عدة أمراء محليين، إذ تتبع هذه الرواية نهج مخطوطة واي (Wye Manuscript) من حيث عدم التركيز على الأسباب التي دفعت بيرومال إلى نفي نفسه وتقسيم مملكته، بل تسلط الضوء على التداعيات التي أعقبت قراراته. فبدلًا من تقديم تفسير لمبررات هذا الحدث، تقتصر المخطوطة على تحديد الأسر الحاكمة التي منحها بيرومال حق السيادة. ومن بين هؤلاء، ملوك كوتشي (Cocci)، الذين حصلوا على التاج الملكي من يديه مباشرةً، بالإضافة إلى حكام زامورين في كاليكوت (Zamorins of Kozhikode).

بعد أن حُددت الأسر الحاكمة والمناطق التابعة لها، تتناول الرواية تفاصيل أكثر وضوحًا حول أسطورة شيرامان بيرومال، حيث يُصوَّر في هذه المخطوطة بوصفه أول ملك يكسر تقليدًا استمر لسبعة عشر جيلًا، والذي كان يقضي بأن يقتصر حكم كل ملك على مدة 12 عامًا فقط. واشتهر بيرومال بكونه حاكمًا قاد معارك ضد الغزاة الأجانب، لكنه أنهى حكمه وسط جدل واسع. وعلى غرار ما جاء في كيرالولباثي (Keralolpatti)، تبدأ القصة بخلاف نشأ بين بيرومال وأحد وزرائه، وليس مع حارسه الشخصي كما ورد في روايات أخرى.

في هذا السرد، يُتهم الوزير ظلمًا بارتكاب أفعال غير أخلاقية تجاه الملكة، مما يؤدي إلى إعدامه. ولكن، بدلاً من أن يكون هذا الحدث وسيلة تكفير جزئية عن ذنوب بيرومال، فإن الوزير أثناء صعوده إلى السماء يطلق لعنة على الملك. وتشير هذه المخطوطة إلى أن هذا الحدث أثر بشدة على عقل الملك، مما جعله ينطلق في رحلته إلى مكة المكرمة طلبًا للخلاص. ورغم أن السفر إلى مكة للحج يحمل دلالة دينية إسلامية واضحة، إلا أن المترجم لا يجزم إن كان مؤلفو المخطوطة يشيرون إلى الإسلام أم البوذية باعتبارها الديانة التي تحول إليها شيرامان بيرومال.

مخطوطة القصة The Qissat Shakarwati Farmad

******

ناسا وانشقاق القمر

وبالتأكيد فإنّ الحديثَ في الجانبِ العلميِّ لن يأتي منهم بجديد، ذلك أنّ من اعتاد التهويلَ والمبالغةَ، وتجاهُلَ الحقائقِ وتجنّب التحقيقِ والتدقيقِ، واعتبرَ شهادةَ الفردِ الواحدِ تواترًا، وأتانا بتلك الكوارثِ في حديثهِ عن الشواهد التاريخية، فإنّه لن يُغيّرَ نهجَهُ، ولن يعدِلَ أسلوبَهُ حين يتناولُ الأمرَ تناولًا عِلميًا. ها هُم «الباحثون المسلمون» يقولون في موقعهم:

في دراسة بحثية أثبتت من أثاره أن القمر تعرض لتقلص غريب في الماضي ولا زال (لنتخيل مثلًا تقسيم كرة ما إلى نصفين ثم لحامهما من جديد فيكون الناتج أصغر حجمًا) وهم يؤكدون أن ذلك الحدث ليس قديمًا جدًا (ولكن تقديراتهم أيضا لا زال مبالغ فيها) نترككم مع الفيديو من ترجمتنا:

أوّلًا: هذا التقلُّصُ الذي وصفوهُ بأنّه «غريبٌ» ليس فيه غرابةٌ ولا عجبٌ أصلًا، ولا يدعو إلى الدهشةِ بأيّ وجهٍ من الوجوه؛ إذ إنَّ مقدارَ هذا التقلُّصِ الذي يتحدثون عنه هو خمسون مترًا فقط، فإذا علِمتَ أنّ محيطَ القمرِ يبلغُ حوالي أحد عشر ألف كيلومتر، فإنّ نسبة هذا التقلُّصِ لا تبلغُ واحدًا في المئة، ولا واحدًا في الألف، ولا واحدًا في عشرةِ آلاف، بل لا تصلُ إلى نصف جزءٍ من عشرة آلاف، إذ تبلغ 0.0004545% فقط من المحيط الكلي للقمر.

ثانيًا: لو سلَّمنا معهم أنّ هذا التقلُّصَ «غريبٌ»، فلماذا يريدونَ منّا أن نتخيَّلَ أنّ هذا التقلّصَ ناتجٌ عن كرةٍ تمَّ شقُّها إلى نصفينِ ثم أُعيدَ لَحمُها مرةً أخرى؟ لماذا لا نتخيّلُ ما هو أقربُ إلى الحقيقةِ والمنطق، بأن جرمًا سماويًا كبيرًا اصطدمَ بها، فأحدثَ بها بعض التغيراتِ في القشرةِ أو السطحِ، وهذا تمامًا ما حدثَ مع كوكب الأرضِ الذي نعيشُ عليه، حين اصطدمَ بها جسمٌ سماويٌّ هائلٌ، فتسبَّبَ في اقتلاعِ جزءٍ منها وتكوينِ القمرِ نفسِهِ من هذا الجزءِ المُقتَلعِ من الأرضِ.46

وما يدل على ذلك أنهم نشروا هذا الفيديو للدكتور Tom Watters الذي يتحدث فيه عن إبحاثه التي توصل فيها إلى أن القمر يتقلص حجمه، لكن العجيب أن نفس الدكتور Tom Watters قد نشر أبحاثًا أخرى يثبت فيها أن حتى كوكب عطار يتقلص حجمه هو الآخر. وإذا كان القمر قد تقلص حجمه بمقدار ٥٠ مترًا، فإن كوكب عطارد قد تقلص حجمه بمقدار ٧ كيلو متر.47 فماذا نفعل الآن: هل نقول اقتربت الساعة وانشق عطارد؟ فلماذا تم اعتبار تقلص القمر بمقدار ٥٠ متر دليل على انشقاقه، بحسب أبحاث الدكتور Tom Watters، ولا يتم اعتبار كوكب عطارد – الذي تقلص بأضعاف ذلك – قد تم انشقاقه هو الآخر، بناءً على نفس الأبحاث من نفس العالم! 

ثالثًا: لو سلَّمنا فرضًا بأنه لا سبيلَ للتقلُّصِ إلا أن تنشقَّ الكرةُ نصفينِ ثم يُعادَ لحمُها من جديد، فإنّ ذلك لا يوجبُ بالضرورةِ أن ينقصَ حجمُها أو يتقلّصَ مقدارُها. أليسَ اللهُ الذي خلقَ السماواتِ والأرضَ وما بينهما بقادرٍ على أن يشقَّ القمرَ ثم يُعيدَه إلى هيئتهِ الأولى دون أن ينقصَ من حجمِهِ مثقالُ ذرّةٍ من تراب؟ فما العلاقةُ إذن بين تقلُّصِ الحجمِ وبينَ انشقاقِ القمرِ؟ بل لو شاءَ اللهُ لأعادَه كما كان دون أن يذهبَ منه ملليمترٌ واحد، ولا أن تتبدّلَ منه هيئةٌ أو يتغيّرَ فيه مقدار؟ 

رابعًا: سلّمنا أنه هذا التقلص «غريبًا»، وسلّمنا أنه لا توجد طريقة للتقلص إلا فقط بشق الكرة نصفين ولحمها من جديد، وسلّمنا أن اللهَ شقَّ القمرَ ثم قلَّصَ حجمَه (مع أنه قادر أن يشقه ولا يُقلل حجمه)، فلماذا عساهم قائلين إذا كان البحث الذي يستدلون به، والعالِم الذي قام به يقول في نفس الورقة إن هذا التقلص قد تم خلال المليار سنة الأخيرة، وربما ٨٠٠ مليون عام.48

فانظروا أيّها العقلاءُ إلى هذه الكارثةِ العلميةِ والمنطقيّةِ الكبرى: يريدوننا أن نُصدِّقَ أنّ تقلّصًا قدرُهُ خمسون مترًا فقط، والذي حدثَ على مدارِ 800 مليون سنة، سببهُ انشقاقُ القمرِ الذي حدثَ قبل 1400 سنةٍ فقط! ويريدوننا أن نتجاهلَ ما أثبتهُ نفسُ العالمِ في ذاتِ الورقةِ من تقلُّصِ كوكبِ عطاردَ بأضعافِ أضعافِ تقلّصِ القمرِ! ثمَّ بعد كلِّ ذلك، يطلبون منّا أن نعتبرَ هذا «دليلًا علميًا» على انشقاقِ القمر!!

على كلٍ، دعونا نختم هذا الجزء من المقال بكلام كتبه الدكتور من وكالة ناسا قائلًا: 49

لا يوجد أي دليل علمي حالي يُشير إلى أن القمر قد انشقَّ إلى قسمين (أو أكثر) ثم أُعيد تكوينه في أيِّ وقتٍ مضى.

Facebook
Twitter
LinkedIn